التوحيد نقاء وشفاء: فهم القضاء والقدر في الإسلام

منتدى نور الحقيقة – الحلقة الثالثة مع الأستاذة أمل باحطابقناة سحر اليوغا والطاقة

مقدمة: رمضان شهر التزكية والارتقاء

يأتي شهر رمضان ليحمل معه نفحات الإيمان والرحمة، فيسمو المسلم بروحه وأخلاقه، ويتعلم الصدق والصبر والإحسان. في هذا الشهر الفضيل، يتجدد الحديث عن التوحيد، وأهميته في نقاء القلب وشفاء النفس، ويتجلى ذلك في فهمنا العميق لعقيدة القضاء والقدر.

رسالة عظيمة في بساطة الأسلوب

تناولت الأستاذة أمل باحطاب رسالة صغيرة في حجمها، كبيرة في قدرها، مليئة بالمعلومات القيمة، مستلهمة من أسلوب العلماء الربانيين في البساطة والوضوح وإيصال الفائدة للناس. أكدت أن الإنسان عليه أن يجتهد في بذل الخير، وأن ينفع نفسه أولاً ثم ينفع الناس، لا طلباً لرضاهم أو مدحهم، بل ابتغاء مرضاة الله، مستشهدة بقوله تعالى:

"وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" (فصلت: 33)

الدعوة إلى الله والعمل الصالح يجب أن يكونا خالصين لله، موافقين لسنة النبي محمد ﷺ. ولهذا، ينبغي على المسلم أن يتعلم السنة، ويتأكد أن أقواله وأفعاله موافقة للحق.

نفع الناس: صدقة جارية وأثر دائم

أشارت الأستاذة إلى أن نفع الناس من أعظم الأعمال التي تبقى للإنسان بعد وفاته، فهي من الأعمال الجارية التي يستمر أجرها حتى بعد الموت، مثل العلم النافع الذي يتركه العالم أو الداعية. فكل خير يبذله الإنسان في حياته يعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة.

التوازن بين رضا الله ورضا الناس

تناولت الأستاذة مقولة "اعتزل ما يؤذيك"، وأوضحت أن العزلة عن أذى الناس لا تعني الانقطاع عن نفعهم أو السعي لرضاهم، بل أن يكون الهدف هو رضا الله وحده. فالمسلم مأمور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يضره من ضل إذا اهتدى، كما قال تعالى:

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ" (المائدة: 105)

القضاء والقدر: فهم سليم ومتوازن

الفرق بين الطوائف في القدر

استعرضت الأستاذة باختصار مواقف الطوائف المختلفة من مسألة القضاء والقدر:

• الجبرية:بالغوا في إثبات القدر لله ونفوا قدرة الإنسان واختياره، فاعتبروا الإنسان مسيّرًا لا مخيّرًا.
• القدرية:بالغوا في إثبات قدرة الإنسان ونفوا تعلق القدر بالله، حتى زعم بعضهم أن الله لا يعلم أفعال العباد إلا بعد وقوعها.
• أهل السنة والجماعة:سلكوا طريق الوسطية، فأثبتوا أن للإنسان قدرة واختيارًا في إطار مشيئة الله وحكمته.

التوازن بين الجبر والاختيار

أكدت الأستاذة أن الإنسان يشعر في نفسه بوجود أمور مجبر عليها (كالولادة والموت)، وأخرى يختارها (كالأقوال والأفعال). طريق الآخرة أوضح وأسهل من طرق الدنيا، لأن الله بيّن لنا ما يحب وما يكره، ووعدنا بنتائج العمل الصالح:

"مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً" (النحل: 97)

مشيئة الله وحكمته

الله سبحانه وتعالى يشاء كل شيء بحكمة، فلا يفعل شيئًا عبثًا، فهو الحكيم الذي لا يعتري أفعاله نقص أو عبث. قد لا نفهم حكمة الله في كل أمر، لكننا نثق بكمال علمه وقدرته وعدله.

"أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا" (المؤمنون: 115)

الإنسان محدود الإدراك، لا يستطيع الإحاطة بحكمة الله في كل شيء، لكن عليه أن يثق بأن كل ما يقدره الله فيه حكمة، سواء علمناها أم جهلناها.

مراتب القضاء والقدر الأربع

لفهم القضاء والقدر في الإسلام فهماً صحيحاً، يجب معرفة مراتبه الأربع، كما بينها أهل السنة والجماعة:

1.العلم

الإيمان بأن الله تعالى يعلم كل شيء، علمًا شاملاً لا يغيب عنه شيء في السماوات ولا في الأرض، من أفعال العباد وأفعال المخلوقات، صغيرها وكبيرها.

2.الكتابة

الإيمان بأن الله كتب مقادير كل شيء في اللوح المحفوظ، كما جاء في الحديث:

"إن أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب. قال: ربي، وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة."كل شيء مكتوب عند الله قبل أن يقع.

3.المشيئة

الإيمان بأن كل ما يقع في الكون إنما يقع بمشيئة الله، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. للإنسان مشيئة واختيار، لكنها تابعة لمشيئة الله العليا:

"وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ" (التكوير: 29)

4.الخلق

الإيمان بأن الله خالق كل شيء، حتى أفعال العباد، فهو الذي خلق الخير والشر، لكن الشر لا يُنسب إلى الله كفعل، بل هو من أفعال المخلوقات التي أذن الله بوقوعها لحكمة.

الهداية والضلال: حكمة وعدل

الله تعالى بحكمته يهدي من علم أنه يريد الحق، ويضل من أعرض عن الهداية، ولا يساوي بين المخلصين والمتكبرين. لكن باب الهداية مفتوح، والله قادر على أن يقلب القلوب ويهدي من يشاء، ولا يجوز للعبد أن يحكم على أحد بأنه لن يُهدى.

التطبيق العملي لعقيدة القضاء والقدر

• الرضا بالقضاء:على المسلم أن يرضى بقضاء الله وقدره، ويعلم أن كل ما يصيبه من خير أو شر هو لحكمة يعلمها الله.
• العمل والسعي:لا يعني الإيمان بالقدر ترك العمل، بل يجب على المسلم أن يبذل الأسباب، ويجتهد في الطاعة، ويترك النتائج على الله.
• التوازن النفسي:الفهم الصحيح للقدر يقي الإنسان من القلق والاكتئاب، ويمنحه راحة القلب وطمأنينة النفس.

خلاصة مراتب القضاء والقدر

دعاء ختامي

"اللهم لك الحمد على ما علمتنا، ولك الحمد على ما هديتنا، ولك الحمد على ما وفقت إليه من صالح العمل. اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأقوال والأعمال، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ودلنا عليك، وعرفنا من صفاتك وأسمائك ما يزيد به الإيمان في قلوبنا. اللهم اجعل حبك أحب إلينا من كل شيء، وأدبنا بأدب القرآن والسنة. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين."

خاتمة

فهم عقيدة القضاء والقدر يمنح المسلم نقاء في التوحيد، وشفاء في القلب، وطمأنينة في النفس. علينا أن نعيش هذه العقيدة في حياتنا، ونعلمها لأبنائنا، لنكون من الراضين بقضاء الله، العاملين بما يرضيه، الساعين لنفع أنفسنا والناس من حولنا، ابتغاء وجه الله وحده.

جزاكم الله خيرًا، ولا تنسوا الدعاء لنا ولجميع المسلمين.