فهم العلوم: التمييز بين ما يُقاس وما يُعتقد
في عالمنا اليوم، يزداد النقاش حول العديد من المفاهيم العلمية والفلسفية، خاصة تلك المتعلقة بالطاقة، الروح، والمفاهيم غير الملموسة. كثيرًا ما نجد أنفسنا
في عالمنا اليوم، يزداد النقاش حول العديد من المفاهيم العلمية والفلسفية، خاصة تلك المتعلقة بالطاقة، الروح، والمفاهيم غير الملموسة. كثيرًا ما نجد أنفسنا أمام تساؤلات حول حقيقة هذه العلوم، ومدى مصداقيتها، وكيف يمكننا التمييز بين ما هو علمي وما هو مجرد اعتقاد أو انطباع شخصي. في هذا المقال، سنستعرض بشكل مبسط وممتع كيف قسّم العلماء والفلاسفة العلوم، ولماذا يجب أن نتحلى بروح الشك البنّاء عند التعامل مع بعض المفاهيم المنتشرة.
تصنيف العلوم: ما بين القياس والانطباع
جميع العلوم التي عرفها الإنسان منذ القدم وحتى اليوم، يمكن تصنيفها إلى قسمين رئيسيين:
- العلوم القابلة للقياس (العلوم المادية):
هذه هي العلوم التي يمكننا رؤيتها، قياسها، واختبارها بشكل مباشر. مثلًا:
- الفيزياء
- الكيمياء
- الرياضيات
- علم الأحياء
- الطب
- علم الفلك
يمكننا قياس حرارة الشمس، سرعة نمو النبات، أو حتى معدل ضربات القلب. هذه العلوم تعتمد على التجربة والملاحظة، ويمكن لأي شخص في أي مكان أن يحصل على نفس النتائج إذا اتبع نفس الخطوات.
- العلوم الانطباعية أو الذاتية (العلوم غير القابلة للقياس):
وتشمل كل ما يتعلق بالمشاعر، المعتقدات، التجارب الشخصية، والفلسفة. مثل:
- علم النفس
- علم الطاقة
- علم الروح
- المشاعر (السعادة، الحزن، القلق...)
- الأديان والمعتقدات
هذه العلوم لا يمكن قياسها أو رؤيتها بشكل مباشر، ولا يمكن إثباتها بنفس الطريقة التي نثبت بها الحقائق الفيزيائية. فمثلًا، لا يمكننا أن نقيس السعادة أو الحزن بجهاز أو مقياس محدد، كما لا يمكننا إثبات وجود الروح أو الطاقة الكونية بشكل تجريبي.
الفلسفة وعلم "الأنطولوجيا"
تندرج معظم هذه التساؤلات تحت علم الفلسفة، وتحديدًا "الأنطولوجيا" (Ontology)، وهو العلم الذي يهتم بدراسة ماهية الأشياء ووجودها. يسعى هذا العلم للإجابة عن أسئلة مثل:
- ما هو الكون؟
- لماذا نحن موجودون؟
- هل ما نراه حقيقي أم مجرد انطباعات؟
هذه الأسئلة شغلت الفلاسفة منذ آلاف السنين، وما زالت محور نقاشات عميقة حتى اليوم.
مدارس التفكير بعد كارل بوبر
في القرن العشرين، جاء الفيلسوف "كارل بوبر" ووضع أسسًا مهمة لتقييم العلوم. قسم العلوم إلى نوعين رئيسيين:
- العلوم القابلة للاختبار والتكذيب (Falsifiable): وهي التي يمكن وضعها تحت التجربة، وإذا ثبت خطؤها يمكن رفضها. مثال: إذا قلت أن "الماء يغلي عند 100 درجة مئوية"، يمكن لأي شخص اختبار ذلك.
- العلوم غير القابلة للاختبار (Non-Falsifiable): وهي التي لا يمكن إثباتها أو نفيها بالتجربة، مثل الكثير من المعتقدات الدينية أو الروحية.
بوبر أكد أن أي علم لا يمكن اختباره أو تكذيبه لا يُعتبر علمًا بالمعنى الدقيق.
لماذا يجب أن نشك؟
من المهم جدًا أن نتحلى بروح الشك البنّاء، خاصة عند التعامل مع العلوم غير القابلة للقياس. فلو استمعنا إلى محاضرة عن "الطاقة الكونية" أو "العلاج بالطاقة"، يجب أن نسأل أنفسنا:
- هل يمكن قياس هذه الطاقة؟
- هل هناك دراسات علمية تثبت فعاليتها؟
- هل النتائج قابلة للتكرار في كل مكان وزمان؟
العلماء في جميع أنحاء العالم، بغض النظر عن دينهم أو ثقافتهم، يجمعون على أن أي علم لا يمكن قياسه أو اختباره لا يمكن اعتباره علمًا حقيقيًا. بل إن معظم الجامعات الكبرى في الصين واليابان لا تدرّس "علوم الطاقة" لأنها تفتقر إلى الأسس العلمية الصلبة.
الفرق بين العلم الحقيقي والعلم الزائف
هناك مصطلح يُستخدم بكثرة في الأوساط العلمية وهو "العلم الزائف" (Pseudo-Science). يُطلق على أي ادعاء أو ممارسة تبدو علمية لكنها تفتقر إلى الدليل العلمي والمنهجية الصارمة. علوم مثل "الطاقة الكونية" أو "العلاج بالروح" غالبًا ما تندرج تحت هذا التصنيف، لأنها لا تقدم أدلة قابلة للقياس أو التكرار.
على سبيل المثال، في علم النفس هناك تقنيات مثل "كتابة الأفكار على ورقة ثم حرقها للتخلص من التوتر". قد يشعر بعض الأشخاص بتحسن، بينما لا يشعر آخرون بأي تغيير. هذه ليست مثل قياس حرارة الشمس أو نمو النبات، حيث النتائج ثابتة وواضحة للجميع.
دروس من التاريخ: علم الفرينولوجيا
في القرن التاسع عشر، ظهر علم يُسمى "الفرينولوجيا" (Phrenology)، كان يدّعي أن شكل الجمجمة وأجزائها المختلفة تحدد شخصية الإنسان وميوله. دُرّس هذا العلم في الجامعات لفترة طويلة، حتى جاءت الأدلة العلمية التي أثبتت خطأه تمامًا، فتم حذفه من المناهج وأصبح مجرد ذكرى في تاريخ العلوم.
هذا المثال يعلّمنا أهمية الشك والنقد العلمي، وعدم التسليم بأي فكرة لمجرد انتشارها أو شهرتها.
لماذا يبحث الناس عن هذه العلوم؟
غالبًا ما يلجأ الناس إلى العلوم غير المثبتة بحثًا عن الأمل، أو بسبب الفضول، أو رغبة في إيجاد حلول لمشاكلهم الشخصية. لكن من المهم أن نعرف أن هذه العلوم لا تقدم حلولًا حقيقية أو دائمة، بل قد تضر أحيانًا إذا اعتمدنا عليها بشكل كامل وأهملنا العلوم الحقيقية.
خلاصة وتوصيات
- تحلَّ بروح الشك: لا تقبل أي معلومة دون دليل أو تجربة واضحة.
- اعتمد على العلوم القابلة للقياس: فهي وحدها التي تقدم نتائج موثوقة وقابلة للتكرار.
- لا تنخدع بالعلم الزائف: مهما بدا مغريًا أو انتشر بين الناس، ابحث دائمًا عن الدليل العلمي.
- تعلم من التاريخ: كثير من العلوم والنظريات تم إثبات خطئها مع تطور المعرفة.
- ابحث عن المعرفة الحقيقية: ولا تتوقف عن طرح الأسئلة والبحث عن الإجابات.
في النهاية، العلم الحقيقي هو الذي يخضع للاختبار، ويقبل النقد، ويتطور باستمرار. أما الاعتقادات والانطباعات الشخصية، فهي جزء من التجربة الإنسانية، لكنها ليست علمًا بالمعنى الدقيق. فكن دائمًا باحثًا عن الحقيقة، ولا تتوقف عن التعلم والتساؤل.
https://www.youtube.com/watch?v=aWrmkMc5MxU