فهم علم النفس: بين العلم والفلسفة والادعاءات الحديثة
علم النفس هو العلم الذي يدرس السلوك الإنساني، سواء لدى الأشخاص الطبيعيين أو غيرهم، بهدف التوصل إلى القوانين التي تحكم هذا السلوك. مر علم النفس بعدة مر
علم النفس هو العلم الذي يدرس السلوك الإنساني، سواء لدى الأشخاص الطبيعيين أو غيرهم، بهدف التوصل إلى القوانين التي تحكم هذا السلوك. مر علم النفس بعدة مراحل ومدارس فكرية، إلا أن ما يهمنا هنا هو فهم طبيعة هذا العلم، وكيف تسللت إليه بعض الأفكار والمعتقدات غير العلمية، خاصة مع ظهور ما يسمى بحركة "العصر الجديد" والتنمية البشرية.
علم النفس بين العلم والفلسفة
في القرن التاسع عشر، كان التركيز في علم النفس منصبًا على الجوانب التجريبية، مع اهتمام خاص بالجوانب الحدسية والغريزية للعقل البشري. حاول العلماء آنذاك الربط بين الفلسفات الباطنية وأعماق العقل، لكن هذه المحاولات لم تكن واضحة المعالم حتى جاء سيغموند فرويد، مؤسس مدرسة التحليل النفسي.
فرويد والعقل الباطن
فرويد كان من أوائل من بحثوا في موضوع العقل الباطن، حيث لاحظ أثناء علاجه للمرضى بالتنويم الإيحائي أن بعضهم يتذكر أحداثًا لا يستطيع تذكرها في حالة اليقظة. طور فرويد هذه الفكرة ليقسم النفس البشرية إلى ثلاثة أقسام:
- العقل الواعي: ما ندركه ونشعر به حاليًا.
- العقل قبل الشعوري: ما يمكن استرجاعه بسهولة.
- العقل اللاواعي (الباطن): مخزن الذكريات والتجارب والمشاعر المكبوتة.
يرى فرويد أن العقل الباطن يؤثر في مشاعر الإنسان وسلوكه، لكنه لا يتفاعل مع العالم الخارجي بشكل مباشر، بل يظل تأثيره محصورًا في الشخص نفسه.
كارل يونغ وتوسيع مفهوم العقل الباطن
أحد تلامذة فرويد، كارل يونغ، ذهب أبعد من ذلك. بعد أن أسس مدرسة علم النفس التحليلي، بدأ يهتم بالفلسفات الشرقية والميثولوجيا، وقدم مفهوم "اللاوعي الجمعي" أو "الوعي الكلي". حسب يونغ، هناك مستوى من اللاوعي مشترك بين جميع البشر، يحتوي على خبرات وتجارب البشرية جمعاء. هذا المفهوم استغلته حركات العصر الجديد لتبرير أفكارها حول القدرات الخارقة والتواصل مع الكون.
الفرق بين علم النفس والتنمية البشرية
علم النفس الحديث يعتمد على مزيج من العلم التجريبي والفلسفة، لكن يجب التمييز بين ما هو مثبت علميًا وما هو مجرد فلسفات أو معتقدات شخصية. كثير من نظريات التنمية البشرية، خاصة تلك التي تتحدث عن "قوة العقل الباطن" أو "قانون الجذب"، لا تستند إلى أدلة علمية، بل تعتمد على أفكار فلسفية أو حتى خرافات.
مثال توضيحي
إذا زرع شخص في عقله فكرة أن أحدهم يكرهه، فإن هذه الفكرة ستؤثر على مشاعره وسلوكه تجاه ذلك الشخص، وقد تؤدي بالفعل إلى تغيير العلاقة بينهما. لكن هذا التغيير ناتج عن سلوك الشخص نفسه، وليس لأن الكون استجاب لترددات أفكاره كما تدعي بعض مدارس التنمية البشرية.
نقد بعض الكتب والتقنيات المنتشرة
من أشهر الكتب التي انتشرت في العالم العربي كتاب "قوة عقلك الباطن" لجوزيف ميرفي، والذي يروج لفكرة أن العقل الباطن هو مخزن للمعرفة الكونية، ويمكنه تحقيق كل شيء بمجرد التفكير فيه. هذه الأفكار لا أساس لها في علم النفس التجريبي، بل تتعارض مع مبادئ العلم والمنطق.
كذلك تنتشر تقنيات مثل التنويم الإيحائي، البرمجة اللغوية العصبية، العلاج بخط الزمن، وغيرها من الأساليب التي غالبًا ما تفتقر إلى الدعم العلمي، وتعتمد على الخيال أو المعتقدات الفلسفية الباطنية.
علم النفس الإنساني وما بعد الذات
ظهر علم النفس الإنساني بعد الحرب العالمية الثانية، وركز على الجوانب الروحانية والباطنية للنفس البشرية. مع تزايد الاهتمام بالفلسفات الشرقية، دخلت تقنيات مثل اليوغا، التأمل، وتناسخ الأرواح ضمن هذا المجال، رغم أنها لا تستند إلى منهجية علمية واضحة.
من أشهر رواد هذا الاتجاه أبراهام ماسلو، صاحب هرم الاحتياجات الشهير، الذي وضع تحقيق الذات في قمة الهرم، وربطه بتجارب روحية يمكن الوصول إليها عبر تقنيات مستمدة من الفلسفات الشرقية.
الباراسيكولوجي: علم النفس الماورائي
الباراسيكولوجي هو علم يدرس القدرات النفسية الخارقة، مثل التخاطر، قراءة الأفكار، التأثير في المادة، وغيرها من الظواهر التي لم يثبت العلم وجودها حتى الآن. معظم الدراسات العلمية لم تجد أي دليل يدعم وجود هذه القدرات، وغالبًا ما يتم تصنيفها ضمن الخدع أو الأوهام.
البرمجة اللغوية العصبية: نقد علمي
البرمجة اللغوية العصبية (NLP) تعتبر من أكثر التقنيات انتشارًا في العالم العربي، وتدعي أنها قادرة على تغيير التفكير والسلوك من خلال اللغة والنمذجة. إلا أن مؤسسيها لم يكونوا من علماء النفس، ولم تعتمد على أسس علمية أو تجريبية، بل استندت إلى مزيج من الفلسفات والتجارب الشخصية.
من المبادئ التي تروج لها البرمجة اللغوية العصبية:
- "الخارطة ليست الواقع": أي أن إدراكك للواقع ليس هو الواقع نفسه.
- "وراء كل فعل مقصد إيجابي": مما يبرر حتى الأفعال الخاطئة بناءً على نية صاحبها.
هذه المبادئ قد تبدو جذابة، لكنها تؤدي إلى نسبية القيم والأخلاق، وتخلط بين الحق والباطل.
نصائح هامة للباحثين عن تطوير الذات
- قوّ عقيدتك أولاً: قبل الانخراط في كتب أو دورات التنمية البشرية، راجع مفاهيمك الدينية والإيمانية، وفهم القضاء والقدر.
- التربية النفسية للأبناء: ركز على بناء عقيدة صحيحة وتربية نفسية متوازنة لأبنائك، بدلاً من الاهتمام المفرط بالماديات.
- استشر المختصين: إذا واجهتك أعراض نفسية مستمرة تؤثر على حياتك، توجه إلى مختص نفسي أو طبيب، ولا تلجأ إلى مدربي التنمية البشرية أو الكتب المشبوهة.
- احذر من الكتب والدورات المشبوهة: ابتعد عن الكتب أو الدورات التي تتحدث عن التنويم المغناطيسي، قانون الجذب، البرمجة اللغوية العصبية، الوعي الكوني، تناسخ الأرواح، وغيرها من المصطلحات التي لا تستند إلى علم حقيقي.
- اقرأ في علم النفس الإسلامي: ابحث عن كتب علم النفس التي كتبها مختصون معروفون وملتزمون بالمنهج العلمي، وابتعد عن الخرافات والمغالطات المنتشرة في كتب "علم النفس الشعبي".
خلاصة
علم النفس علم رصين يعتمد على المنهج التجريبي، لكنه تأثر عبر تاريخه بالعديد من الفلسفات والمعتقدات غير العلمية. من المهم أن نميز بين ما هو علمي وما هو مجرد ادعاءات أو خرافات، خاصة مع انتشار حركة التنمية البشرية التي تخلط بين العلم والوهم. تطوير الذات أمر مهم، لكنه يجب أن يكون مبنيًا على أسس علمية وعقيدة صحيحة، بعيدًا عن الدجل والخرافات.
إذا كنت تبحث عن تطوير ذاتك أو علاج مشاكلك النفسية، توجه إلى المختصين، واقرأ من مصادر موثوقة، ولا تنخدع ببريق الشعارات أو الوعود الزائفة.
دمتم بخير وعافية.
https://www.youtube.com/watch?v=0-1dsWeeJow