فلسفة الطاقة الكونية: الجذور الفكرية والمخاطر المعاصرة
في عصرنا الحديث، انتشرت العديد من الأفكار والممارسات المرتبطة بما يُسمى "الطاقة الكونية" وفلسفات الطاقة، وأصبحت تجد لها رواجًا كبيرًا بين فئات مختلفة
في عصرنا الحديث، انتشرت العديد من الأفكار والممارسات المرتبطة بما يُسمى "الطاقة الكونية" وفلسفات الطاقة، وأصبحت تجد لها رواجًا كبيرًا بين فئات مختلفة من المجتمع العربي والإسلامي، خاصة بين الشباب والباحثين عن الراحة النفسية أو العلاج البديل. في هذا المقال، نستعرض معًا، وبأسلوب علمي وموضوعي، حقيقة هذه الفلسفات، وجذورها الفكرية، والمخاطر التي قد تنطوي عليها، مستندين إلى شرح الدكتور أيمن العنقري، الأستاذ المشارك بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
بداية اللقاء: قصص واقعية من ضحايا فلسفات الطاقة
افتُتح اللقاء بسرد بعض التجارب الواقعية لأشخاص خاضوا غمار ما يسمى بدورات الطاقة، ثم عادوا وتابوا إلى الله بعد أن اكتشفوا حقيقة هذه الممارسات. تحدثت إحدى الأخوات عن معاناتها مع هذه الدورات، وكيف أنها ابتعدت عن العبادات الأساسية، وانغمست في طقوس غريبة، حتى وصلت إلى مرحلة الشك في ثوابت الدين والعقيدة، بل والانجراف نحو الإلحاد. وأخرى روت كيف أن هذه الممارسات أدت بها إلى تدمير حياتها الأسرية، ومحاولات استغلالها من قبل من يروجون لهذه الأفكار. جميعهن أكدن أن العودة إلى القرآن والأذكار والتوبة هي التي أنقذتهن من هذه المتاهة.
هذه الشهادات الواقعية تبرز حجم الخطر الذي قد يواجهه من ينخدع ببريق هذه الفلسفات، خاصة مع كثرة القنوات والدورات التي تروج لها تحت مسميات براقة مثل "العلاج بالطاقة" أو "اليوغا الروحية" أو "فتح الشاكرات".
ما هي الطاقة الكونية؟
يعرّف دعاة فلسفة الطاقة الكونية هذه الطاقة بأنها "قوة الحياة التي تسري في الطبيعة والكون"، ويزعمون أنها القوة المحركة لكل شيء، وأنها إذا توقفت عن الجريان، يتوقف الإنسان عن الحياة. ويصفها بعضهم بأنها "القوة الكامنة التي تدبر الكون وتؤثر في المادة"، ويزعمون أن الإنسان إذا اتحد معها عبر ممارسات مثل التأمل أو اليوغا، فإنه يكتسب قدرات خارقة مثل الشفاء أو التحكم في الواقع المادي.
هذه الفلسفة تقوم على فكرة وجود "قوة عظمى خفية" منبثقة من "الكلي الواحد"، يدركها الإنسان عبر التجربة الذاتية، وتمنحه القدرة على الشفاء والتأثير في الأحداث، بل وصناعة قدره وواقعه بنفسه. ويصل الأمر عند بعضهم إلى اعتبار هذه الطاقة بمثابة "الإله" الذي يدبر الكون ويتحكم فيه.
خصائص الطاقة الكونية في الفكر الوثني المعاصر
يرى دعاة الطاقة الكونية أن لهذه الطاقة صفات خاصة، منها:
- صفات الخالق: يصفون الطاقة الكونية بأنها تخلق وتدبر وتدير شؤون الكون، وهو ما يعد من خصائص الله سبحانه وتعالى وحده.
- قوة الحياة: يزعمون أن جميع قوى الحياة موجودة في الطاقة، ويسمونها في الهندوسية "البرانا"، وأن التحكم بها يمنح الإنسان السيطرة على الكون.
- الخلق والإيجاد: يدّعون أن الطاقة قادرة على خلق الموجودات من العدم، وتحويل الجماد إلى كائنات حية.
- الشفاء: ينسبون للطاقة القدرة على شفاء الأمراض وتطوير الكائنات.
- الأزلية والأبدية: يعتبرون الطاقة أزلية لا تفنى ولا تزول، ويجعلونها بمنزلة الإله.
هذه الأفكار تتعارض بشكل صريح مع العقيدة الإسلامية التي تؤكد أن الله وحده هو الخالق والمدبر والرازق والشافي.
الجذور الفكرية لفلسفة الطاقة الكونية
تعود أصول فلسفة الطاقة الكونية إلى عدة مدارس فلسفية شرقية ووثنية قديمة، من أهمها:
1. الفلسفة الطاوية (التاو)
تقوم الفلسفة الطاوية على مبدأ "التاو" أو "الطاو"، وهو الجوهر الكلي أو العقل الفعال الذي يعتقدون أنه أصل كل شيء في الكون. التاو عندهم ليس له شكل أو اسم أو صفة، وهو القوة الكامنة في كل الموجودات. من هذا التاو تولدت الثنائيات (الين واليانغ)، ومنهما نشأ الكون. هذه الفلسفة تقوم على عقيدة "وحدة الوجود"، أي أن الله والعالم شيء واحد، ولا يوجد خالق ومخلوق منفصلان.
2. الفلسفة الهندوسية (الأوبنشاد والفيدا)
في الفكر الهندوسي، نجد عقيدة "وحدة الوجود" واضحة في نصوص الأوبنشاد، حيث يُنظر إلى "براهمان" (الإله المطلق) على أنه موجود في كل الكائنات، وأن العالم المادي مجرد مظاهر زائفة للحقيقة الواحدة. ظهرت من هنا فلسفة "البرانا" (طاقة الحياة)، التي يعتقدون أنها تسري في كل شيء ويمكن التحكم بها عبر التأمل والطقوس الخاصة.
3. الفلسفة الهرمسية
تأثرت فلسفة الطاقة أيضًا برؤية هرمس، الذي كان يُنظر إليه كإله الحكمة والمعرفة في الحضارات القديمة. في الفكر الهرمسي، نجد فكرة الثنائيات الكونية (النور والظلام) والفيض، حيث يُعتقد أن الكون انبثق من الإله عبر فيض مستمر، وليس عبر خلق مباشر. كما يؤمنون بأن الإنسان يمكنه تحقيق "الخلود" والوصول إلى مرتبة الإله عبر التأمل وتنشيط "الشاكرات" السبعة في الجسد.
4. البوذية ومبدأ النرفانا
تسعى البوذية للوصول إلى حالة "النرفانا"، وهي التحرر من الرغبات والشهوات والاندماج مع "المطلق" أو "المصدر"، عبر التأمل العميق والتخلص من المعاناة. في بعض مدارس البوذية، يُنظر إلى النرفانا كحالة من الذوبان الكامل مع الكون الطاقي، ويُعتقد أن الإنسان يمكنه بلوغ "التنوير" أو "الاستنارة" عبر هذه الممارسات.
السحر والرموز في مدارس الطاقة
ترتبط فلسفة الطاقة الكونية ارتباطًا وثيقًا بممارسات السحر والشعوذة، خاصة في ما يُعرف بحركة "العصر الجديد" (New Age)، والتي أسستها شخصيات مثل هيلينا بلافاتسكي. كانت بلافاتسكي تدعي امتلاك قوى خارقة وتستعين بما تسميه "المعلمين الروحانيين"، وتستخدم الرموز والتعويذات في طقوسها. وقد اعترفت لاحقًا بأن ما كانت تفعله هو مجرد خداع وحيل تعتمد على الاستعانة بالشياطين.
في مدارس الطاقة، يُزعم أن هناك "جسمًا أثيريًا" غير مرئي، تسري فيه الطاقة عبر مراكز تسمى "الشاكرات"، وأنه يمكن تنشيطها عبر التأمل أو الطقوس الخاصة. هذه الممارسات لا تستند إلى أي دليل علمي أو تجريبي، وغالبًا ما تكون مجرد خرافات لا أساس لها من الصحة.
المخاطر الفكرية والعقدية لفلسفة الطاقة
تكمن خطورة فلسفة الطاقة الكونية في عدة أمور:
- تعظيم غير الله: إذ تُنسب صفات الألوهية للطاقة أو الكون أو النفس البشرية.
- الانحراف عن العقيدة الصحيحة: حيث تؤدي هذه الأفكار إلى التشكيك في وجود الله أو في أسمائه وصفاته، أو حتى إلى الإلحاد.
- الانشغال بطقوس باطلة: تلهي الإنسان عن العبادات الحقيقية وتجعله يعتمد على أوهام لا تنفع ولا تضر.
- الاستغلال المادي والنفسي: إذ يستغل بعض المدربين حاجة الناس للعلاج أو الراحة النفسية لجني الأموال أو السيطرة عليهم.
الخلاصة: العودة إلى المنهج الصحيح
إن فلسفة الطاقة الكونية ليست مجرد تمارين أو علاجات بديلة، بل هي منظومة فكرية ذات جذور وثنية وإلحادية، تتعارض مع العقيدة الإسلامية الصحيحة. من المهم التحذير من الانخداع بهذه الأفكار، والعودة إلى القرآن والسنة، والاعتماد على الله وحده في الشفاء وتيسير الأمور.
كما يجب على كل باحث عن الحقيقة أن يتحرى عن مصدر أي فكرة أو ممارسة قبل أن ينجرف وراءها، وأن يستشير أهل العلم المتخصصين في العقيدة والفكر، حفاظًا على دينه وعقله ونفسه.
هذا المقال مستند إلى شرح الدكتور أيمن العنقري، الأستاذ المشارك بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ضمن لقاء توعوي حول فلسفة الطاقة الكونية وجذورها الفكرية.
https://www.youtube.com/watch?v=nxqgz73Ct1M