احفظ الله يحفظك: دروس من وصية النبي لابن عباس في زمن الفتن
في عالم يموج بالتغيرات السريعة والفتن الفكرية والروحية، تظل وصايا النبي محمد ﷺ منارات هدى ترشد المسلم إلى الثبات والطمأنينة. من أعظم هذه الوصايا، حديث
في عالم يموج بالتغيرات السريعة والفتن الفكرية والروحية، تظل وصايا النبي محمد ﷺ منارات هدى ترشد المسلم إلى الثبات والطمأنينة. من أعظم هذه الوصايا، حديثه الشريف لابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، الذي جمع فيه أصول التوحيد، وحقيقة التوكل، ومعنى الرضا، وأهمية حفظ الله عز وجل في حياة الإنسان.
نص الحديث ومعانيه
قال ابن عباس رضي الله عنه: كنت خلف النبي ﷺ فقال:
«يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف».
(رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح)
أولاً: معنى "احفظ الله يحفظك"
المقصود بحفظ الله هنا أن يحفظ العبد أوامر الله فيمتثلها، وينتهي عن نواهيه، فيحفظ جوارحه وقلبه من الذنوب والمعاصي. فإذا فعل ذلك، تولى الله حفظه في دينه ودنياه، وكان له عوناً ونصيراً.
حفظ الله للعبد نوعان:
- حفظ عام: يشمل جميع الخلق من إنس وجن وحيوان، حيث يحفظهم الله في مصالح دنياهم وأبدانهم.
- حفظ خاص: وهو أشرف الحفظين، ويكون لأوليائه في دينهم وإيمانهم، فيحفظهم من الفتن والشبهات والشهوات، ويثبتهم على الحق حتى يلقوه.
إن المسلم لا يستطيع الثبات على الإيمان والعمل الصالح إلا بحفظ الله وتوفيقه. فكم من أناس كانوا على خير ثم زلوا، وكم من ضعفاء ثبتهم الله بلطفه. لذا، لا يغتر الإنسان بنفسه أو بعمله، بل يظل متضرعاً سائلاً الله الثبات والهداية.
ثانياً: "احفظ الله تجده تجاهك"
أي إذا حفظت أوامر الله وراقبت قلبك وجوارحك، وجدت الله معك، يؤيدك وينصرك ويعينك على الطاعة، ويرفعك في الدرجات. فالقلب هو محل نظر الله، وإذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله.
وقد كان السلف الصالح شديدي الحرص على صلاح قلوبهم، يدعون الله دائماً: "اللهم أصلح فساد قلبي". فصلاح القلب يعين على صلاح العمل، والعكس صحيح.
ثالثاً: العلاقة بين العمل والنية
كثيراً ما يُساء فهم حديث "إنما الأعمال بالنيات"، فيظن البعض أن مجرد النية تكفي دون العمل، أو أن النية يمكن أن تُطلق للكون أو للطاقة! لكن النية في الإسلام محلها القلب، وهي مقرونة بالعمل الصالح، ولا تُصرف إلا لله وحده.
رابعاً: إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله
من كمال التوحيد أن لا يسأل العبد إلا الله، ولا يستعين إلا به فيما لا يقدر عليه إلا الله. أما الاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه فهي جائزة، بشرط أن لا يُعتمد عليه اعتماداً كلياً، بل يُعلم أن الأسباب بيد الله وحده.
وقد حذر النبي ﷺ من اللجوء إلى غير الله في قضاء الحوائج، أو التعلق بالخرافات والبدع كقوانين الجذب أو تقنيات الطاقة المزعومة، فكل ذلك يوقع المسلم في أوهام وضلالات تبعده عن صفاء العقيدة.
خامساً: الإيمان بالقضاء والقدر
يؤكد الحديث الشريف أن كل ما يصيب الإنسان من خير أو شر، نفع أو ضر، فهو بقضاء الله وقدره. فلا أحد يستطيع أن ينفعك أو يضرك إلا بإذن الله، وما كُتب لك سيأتيك، وما لم يُكتب لن تناله.
هذا الإيمان يمنح المسلم سكينة وطمأنينة في مواجهة تقلبات الحياة، ويمنعه من الانجرار وراء الأوهام أو الخوف من المخلوقين.
سادساً: أثر الانحرافات الفكرية المعاصرة
انتشرت في زماننا دعوات إلى ما يسمى "علوم الطاقة" أو "قوانين الجذب" أو "رفع الوعي"، وهي في حقيقتها انحرافات عن التوحيد الخالص، تدعو الإنسان إلى الاعتماد على نفسه أو على قوى غيبية غير الله، وتغريه بأنه يستطيع تغيير أقداره بنفسه أو التواصل مع الكون مباشرة!
وقد أضلت هذه الدعاوى كثيراً من الناس، وأوقعتهم في القلق والضياع، بل وأحالت بعضهم إلى أمراض نفسية وروحية، لأنهم انفصلوا عن مصدر القوة الحقيقي: الله الحفيظ، القادر، الرحيم.
سابعاً: العبادة تحتاج إلى صبر ومجاهدة
العبادة ليست أمراً سهلاً دائماً، بل تحتاج إلى صبر ومجاهدة للنفس، سواء في أداء الصلاة، أو حفظ الجوارح، أو الالتزام بالحجاب، أو غيرها من الطاعات. لكن ثمرتها عظيمة، فهي سبب لحفظ الله للعبد، ورفعة درجته، وسعادته الحقيقية.
أما من يظن أن الاستقامة فيها تعب فيبحث عن "دين خفيف" أو طرق مختصرة للراحة، فإنه في الحقيقة يقع في أغلال الضلال وأوهام الراحة الزائفة.
ثامناً: الرضا بالقضاء والقدر
من كمال الإيمان أن يرضى العبد بما قسم الله له، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "إن الله إذا قضى قضاء أحب أن يُرضى به".
خلاصة الدروس العملية
- احفظ الله في أوامره ونواهيه، يحفظك في دينك ودنياك.
- اجعل قلبك عامراً بذكر الله، وراقب نيتك في كل عمل.
- لا تسأل إلا الله، ولا تستعن إلا به فيما لا يقدر عليه إلا هو.
- ثق أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك.
- احذر من الانحرافات الفكرية التي تدعو إلى الاعتماد على النفس أو الكون أو الطاقة.
- اصبر على العبادة، ففيها عزك وراحتك وسعادتك.
- ارضَ بقضاء الله، واطمئن أن كل شيء بيد الله الحفيظ.
دعاء ختامي
اللهم احفظنا بحفظك، وأكرمنا بلطفك، وردنا إليك رداً جميلاً، واجعلنا من الذين يحفظون حدودك، ويصبرون على طاعتك، ويرضون بقضائك. اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
تذكر دائماً:
"ألا بذكر الله تطمئن القلوب." (سورة الرعد: 28)
فاجعل قلبك معلقاً بالله، وكن مع الله يكن الله معك.
https://www.youtube.com/watch?v=KL6498M8xOo