حقيقة "التجلي" في رمضان: بين المفهوم الطاقي والرؤية الإسلامية
مع اقتراب شهر رمضان المبارك، تزداد الدعوات والدورات التي تروج لما يسمى بـ"التجلي" أو "قانون الجذب" خاصة في الأوساط التي تهتم بما يعرف بعلوم الطاقة وال
مع اقتراب شهر رمضان المبارك، تزداد الدعوات والدورات التي تروج لما يسمى بـ"التجلي" أو "قانون الجذب" خاصة في الأوساط التي تهتم بما يعرف بعلوم الطاقة والتنمية الذاتية. فما هو التجلي؟ ولماذا يرتبط الحديث عنه كثيراً بشهر رمضان؟ وهل لهذا المفهوم جذور في ديننا الإسلامي أم أنه دخيل عليه؟ هذا المقال يسلط الضوء على حقيقة التجلي من منظور نقدي وعلمي، ويكشف خلفياته الفلسفية والدينية.
ما هو التجلي في مفهوم الطاقة؟
يُعرّف التجلي في مدارس الطاقة بأنه "تحويل الفكرة أو الأمنية من عالم الخيال إلى الواقع المادي"، أي أن الإنسان يستطيع – بحسب زعمهم – أن يجذب ما يريد إلى حياته بمجرد التفكير العميق فيه، وترديد التوكيدات، وممارسة بعض الطقوس الذهنية أو الروحية، دون الحاجة للسعي الحقيقي أو العمل الجاد.
يُربط التجلي غالباً بقانون الجذب الشهير، الذي يقوم على فكرة أن "الكون يستجيب لذبذباتك وأفكارك"، وأن كل ما عليك فعله هو أن ترسل نيتك للكون، وتنتظر أن يتحقق لك ما تريد. في رمضان، يُروج أن "طاقات الكون" تكون مرتفعة، وأن ليلة القدر تحديداً هي فرصة ذهبية لتحقيق التجليات، عبر التأملات والطقوس الخاصة.
التجلي في الرؤية الإسلامية: السعي والدعاء
في المقابل، يؤكد الإسلام على أن تحقيق الأماني والأهداف في الحياة مرتبط بالسعي والعمل، مع التوكل على الله والدعاء له وحده. فالمسلم يؤمن بأن الله هو المدبر والمقدر، وأن عليه أن يأخذ بالأسباب المشروعة، ثم يدعو الله ويستسلم لحكمه، راضياً بما يقسمه له، سواء تحقق ما أراد أو لم يتحقق.
يقول تعالى: "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى" (النجم: 39)، ويقول النبي ﷺ: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز". فالسعي جزء أصيل من العقيدة، والدعاء عبادة عظيمة، لكن لا يوجد في الإسلام ما يسمى بـ"إجبار الكون" أو "حتمية التجلي" لمجرد التأمل أو التوكيد الذهني.
جذور التجلي: عقائد شرقية وغنوصية
عند التعمق في فلسفة التجلي، نجد أنها ليست مفهوماً إسلامياً أصيلاً، بل هي مستمدة من عقائد شرقية قديمة كالهندوسية والبوذية، ومن الفلسفات الغنوصية (الباطنية) التي تؤمن بوحدة الوجود، وأن الإنسان يحمل جزءاً من "الإله" في داخله، ويمكنه أن يخلق واقعه بنفسه.
هذه الفلسفات تتبنى فكرة أن "المصدر" أو "العقل الكوني" هو أصل كل شيء، وأن الأفكار تتحول إلى واقع عبر التجلي، وهي مفاهيم تتعارض مع التوحيد الخالص الذي جاء به الإسلام.
رمضان في منظور "الطاقة": شهر للتجلي أم شهر للعبادة؟
يعتبر المسلمون رمضان موسماً للعبادة والتقرب إلى الله، بالصيام والصلاة وقراءة القرآن والصدقة وصلة الأرحام. أما في مدارس الطاقة، فيُنظر إلى رمضان على أنه "شهر الطاقات المرتفعة"، ويُروج لاستغلاله في ممارسة طقوس التجلي، كالتأملات، وترديد التوكيدات، و"تنظيف الشاكرات"، وكتابة الأمنيات بهدف تجليها في الواقع.
يؤكد كثير من الممارسات السابقات للطاقة أن هذه الطقوس قد تزاحم العبادات الحقيقية، بل وتؤدي مع الوقت إلى استبدالها أو تحوير نيتها، فيتحول الذكر والاستغفار والصلاة من عبادة لله إلى وسيلة "لتنظيف الطاقة" أو "فتح الشاكرات" أو "جذب الوفرة".
هل تحقق التجليات فعلاً؟
من خلال تجارب واقعية نقلها عدد من المتحدثات في الحوار، يتضح أن الكثير ممن مارسوا طقوس التجلي لسنوات لم يحققوا ما تمنوه، بل عاشوا في دوامة من الوهم والإحباط، وبعضهم اعترف بأن ما تحقق لهم كان قصير الأمد أو جاء مصحوباً بمشكلات أخرى.
وتشير الممارسات السابقات إلى أن المدربين يعللون فشل التجلي عند المتدرب بوجود "معتقدات سلبية" أو "مشاعر ناقصة"، ويحثونه على المزيد من الدورات والطقوس، مما يحول الأمر إلى دائرة استنزاف نفسي ومالي، دون نتائج حقيقية.
خطر مزاحمة العقيدة: من التوحيد إلى تاليه الذات
أخطر ما في فلسفة التجلي الطاقي أنها تؤسس – تدريجياً – لعقيدة جديدة تقوم على تاليه الذات، وتعظيم قدرات الإنسان، والاستغناء عن الله، أو تحويله إلى "مصدر طاقة" فقط. مع الوقت، قد يضعف ارتباط الإنسان بالدين، وتصبح العبادات مجرد وسائل لتحقيق أهداف دنيوية، أو طقوس طاقية بلا روح.
كما أن هذه الفلسفات تفتح الباب لتأويلات باطنية خطيرة، مثل إنكار أركان الدين، أو تحريف معاني العبادات، أو حتى التشكيك في اليوم الآخر، كما حدث في بعض الحالات التي نقلها الحوار.
لماذا تنتشر هذه المفاهيم؟ ومن هم المستهدفون؟
تشير التجارب إلى أن الفئة الأكثر استهدافاً من قبل مدربي الطاقة هم الأشخاص الذين يمرون بأزمات نفسية، أو صدمات، أو يشعرون بالإحباط واليأس، أو لديهم تعطيل في تحقيق بعض الأهداف (كالزواج، المال، الوظيفة). كما أن الفضول وحب الاطلاع يدفع البعض لخوض التجربة دون وعي بخلفياتها العقدية.
ويستغل المدربون نقاط ضعف المجتمع، فيدخلون من باب الدين، ويستخدمون ألفاظاً شرعية (كالنية، البركة، ليلة القدر)، ويدمجونها بمصطلحات الطاقة، مما يربك المفاهيم ويضلل الناس.
كيف نحمي أنفسنا وأبناءنا؟
- العلم الشرعي: تعلم العقيدة الصحيحة ومعاني القرآن والسنة، وفهم معاني العبادات وأهدافها.
- الوعي بالفلسفات الدخيلة: البحث عن أصول أي ممارسة أو مصطلح قبل تبنيه، وعدم الانسياق وراء كل جديد.
- الرضا بالقضاء والقدر: الإيمان بأن الله هو المدبر، وأن السعي والدعاء هما السبيل لتحقيق الأهداف، مع الرضا بالنتائج.
- الحذر من الدورات المشبوهة: عدم الانجرار وراء الدورات التي تروج لطقوس غريبة أو وعود وهمية.
- تعزيز الروابط الأسرية والدينية: ربط الأبناء بالله، لا بالأشخاص أو المدربين أو الطقوس.
خلاصة
التجلي كما يُروج له في مدارس الطاقة ليس من الإسلام في شيء، بل هو فلسفة دخيلة ذات جذور باطنية ووثنية، تتعارض مع التوحيد الخالص الذي جاء به النبي محمد ﷺ. رمضان ليس شهر الطاقات ولا موسم التجليات، بل هو شهر عبادة وتقوى، وفرصة لتجديد الإيمان والارتباط بالله، وليس للبحث عن تحقيق الأمنيات الدنيوية عبر طقوس غامضة.
الحذر والوعي واجب على كل مسلم ومسلمة، فالعقيدة أغلى ما نملك، ومن ضيعها خسر الدنيا والآخرة.
مصادر إضافية للقراءة:
- كتاب "التوحيد" للشيخ محمد بن عبدالوهاب
- "مقدمة ابن خلدون" حول الصوفية والمصطلحات الدخيلة
- دراسات نقدية في فلسفات الطاقة والتنمية الذاتية
شارك المقال مع من تحب، وساهم في نشر الوعي!
https://www.youtube.com/watch?v=0tL7FqR4r3U