الحب اللامشروط: بين الحقيقة والوهم في ضوء العقيدة الإسلامية
في السنوات الأخيرة، انتشر مفهوم "الحب اللامشروط" أو "الحب المطلق" في أوساط التنمية البشرية وفلسفات الطاقة والوعي، حتى أصبح يتردد على ألسنة الكثيرين، ب
في السنوات الأخيرة، انتشر مفهوم "الحب اللامشروط" أو "الحب المطلق" في أوساط التنمية البشرية وفلسفات الطاقة والوعي، حتى أصبح يتردد على ألسنة الكثيرين، بل وتسلل إلى بعض الخطابات الدينية أو الروحانية. فهل هذا المفهوم صحيح؟ وهل يتوافق مع الفطرة الإنسانية ومع العقيدة الإسلامية؟ أم أنه يحمل في طياته انحرافات خطيرة تمس جوهر الإيمان؟
في هذا المقال، سنناقش مفهوم الحب اللامشروط كما يُطرح في هذه الفلسفات، ونبين حقيقته من منظور إسلامي، ونحذر من مخاطره الفكرية والاجتماعية.
ما هو الحب اللامشروط؟
يُعرّف الحب اللامشروط في أدبيات التنمية البشرية وفلسفات الطاقة بأنه: "أن تحب كل شيء وكل أحد دون أي شرط أو قيد أو توقع، وأن تمنح الحب لمجرد الحب، دون انتظار مقابل أو تغيير أو حتى تقييم". ويذهب بعضهم إلى القول: "إذا كان في الأرض إنسان واحد أو شيء واحد لا تحبه، فلن تكون سعيدًا أبدًا".
تبدو هذه العبارات براقة وجذابة، وتلامس في ظاهرها مشاعر الرحمة والتسامح، لكن هل هي واقعية أو حتى ممكنة التطبيق؟ وهل تتفق مع الفطرة الإنسانية؟
الحب في العقيدة الإسلامية
الإسلام دين الفطرة، ويعترف بمشاعر الإنسان الطبيعية، ومنها الحب والبغض. بل إن الحب في الإسلام له مراتب ودرجات، وأعلاها حب الله تعالى، ثم حب رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم حب الصالحين وأهل الخير، ثم حب الأهل والأقارب وسائر الخلق. وفي المقابل، هناك البغض في الله، وهو بغض الكفر والفسوق والعصيان، والبراءة من أعداء الله.
قال الله تعالى:
"والذين آمنوا أشد حبًا لله" [البقرة: 165]
وقال أيضًا:
"قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم" [آل عمران: 31]
فالحب لله مشروط بالطاعة والاتباع، وليس حبًا عشوائيًا أو مطلقًا بلا ضوابط.
هل الحب اللامشروط ممكن؟
من الناحية الفطرية، من المستحيل أن يحب الإنسان كل شيء وكل أحد بلا استثناء. فهناك أشياء ومواقف وأشخاص يرفضها الإنسان بفطرته، مثل الظلم، والشر، والكفر، والفساد، والعدوان. بل حتى النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره بعض الأمور، ويأمرنا ببغض المعاصي والكفر.
إذاً، الادعاء بأنه يجب أن نحب كل شيء بلا قيد أو شرط، يتعارض مع الفطرة السليمة، ويؤدي إلى تبلد المشاعر، وفقدان التمييز بين الخير والشر.
الجذور الفلسفية للحب اللامشروط
عند التعمق في فلسفات "الحب المطلق"، نجد أنها مستمدة من مذاهب غنوصية وصوفية منحرفة، وبعض الفلسفات الشرقية كفلسفة "وحدة الوجود"، حيث يُزعم أن الله هو أصل الوجود، وأن كل شيء في الكون هو تجلٍّ إلهي، وأن الإنسان إذا وصل إلى "الاستنارة" أو "الوعي الكامل" يتحد مع الله، فيصبح هو والله شيئًا واحدًا، وبالتالي يجب أن يحب كل شيء، لأن كل شيء هو الله!
وهذا الاعتقاد باطل وخطير، ويخالف التوحيد الإسلامي الذي يقرر أن الله خالق منفصل عن خلقه، وأنه ليس كمثله شيء، ولا يحل في شيء من مخلوقاته.
قال ابن تيمية رحمه الله:
"الله بائن من خلقه، فليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته."
الحب اللامشروط بين الإيمان والكفر
من أخطر نتائج هذه الفلسفات أنها تبرر كل شيء باسم الحب، حتى الشرور والآثام والكفر والشياطين، وتدعو إلى تقبلها وحبها بلا قيد، بحجة أن كل شيء في الكون هو "تجلٍّ إلهي"! بل ويزعمون أن الله يحب كل خلقه بلا شرط، ويحب الكفار والشياطين، وأن الإنسان إذا أحب كل شيء بلا قيد، فقد وصل إلى "الاستنارة" أو "الوعي الإلهي".
وهذا يؤدي إلى إسقاط مفهوم الولاء والبراء، وإلغاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإبطال التكاليف الشرعية، بل وإسقاط الخشية من الله، والاكتفاء بالحب وحده، فيخرج الإنسان من دائرة العبودية إلى دائرة الإلحاد أو الحلول والاتحاد.
الرد الإسلامي على هذه المزاعم
- الله خالق منفصل عن خلقه:
الله سبحانه وتعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن، كان ولم يكن شيء غيره، وهو بائن عن خلقه، لا يحل في شيء من مخلوقاته، ولا يتجلى في شيء منها.
- الحب في الله مشروط بالطاعة:
قال تعالى:
"قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله"
فمحبة الله مشروطة باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وبالعمل الصالح، وليس بمجرد الشعور أو الادعاء.
- هناك بغض في الله:
من كمال الإيمان أن يحب الإنسان في الله ويبغض في الله، فيحب أهل الإيمان والخير، ويبغض الكفر والفسوق والعصيان. قال تعالى:
"إن الله لا يحب الكافرين"
"إن الله لا يحب المعتدين"
- الفطرة ترفض الحب اللامشروط:
الإنسان بفطرته يرفض الشر والظلم والكفر، ويحب الخير والعدل والإيمان. ومحاولة فرض حب كل شيء بلا قيد يؤدي إلى اضطراب نفسي وتناقض داخلي، وقد يصل بصاحبه إلى تبلد المشاعر أو حتى الأمراض النفسية.
خطورة تطبيق الحب اللامشروط في الحياة
- تفكيك العلاقات الأسرية والاجتماعية:
إذا كان المطلوب أن تحب كل أحد بلا شرط، حتى من يؤذيك أو يظلمك أو يفسد في الأرض، فهذا يؤدي إلى قبول الظلم والفساد، وإلغاء مفهوم الإصلاح والمحاسبة.
- إسقاط التكاليف الدينية:
إذا وصل الإنسان إلى مرحلة يظن فيها أنه اتحد بالله، فلماذا يصلي أو يصوم أو يعبد؟ ولماذا يخاف من الله أو يرجو رحمته؟ فيسقط عنه معنى العبودية، ويقع في الكفر الصريح.
- تضليل الناس باسم الدين:
كثير من دعاة الطاقة والوعي يروجون لهذه الأفكار بعبارات دينية أو روحانية، ويستشهدون بآيات أو أحاديث خارج سياقها، ليقنعوا الناس أن الدين الحقيقي هو دين الحب المطلق فقط، وأن الخوف من الله أو الرجاء فيه هو من بقايا "الوعي المنخفض".
كيف نحمي أنفسنا من هذه الأفكار؟
- الرجوع إلى الكتاب والسنة:
لا تؤخذ العقيدة إلا من مصادرها الصحيحة، وليس من كتب التنمية البشرية أو فلسفات الطاقة أو الوعي.
- فهم مراتب الحب في الإسلام:
الحب في الإسلام له مراتب: حب الله ورسوله، حب الصالحين، حب الأهل، حب الخير، وكلها مشروطة بالحق والعدل، وليست مطلقة بلا قيد.
- الجمع بين الحب والخوف والرجاء:
العبادة الحقة تجمع بين الحب لله، والخوف منه، والرجاء فيه. قال ابن القيم:
"القلب في سيره إلى الله كالطائر: رأسه المحبة، وجناحاه الخوف والرجاء."
- التحذير من الفلسفات الباطنية:
يجب الحذر من الفلسفات التي تدعو إلى وحدة الوجود أو الحلول أو الاتحاد بالله، فهي مناقضة للتوحيد.
خلاصة
الحب اللامشروط كما يُروج له في فلسفات الطاقة والوعي ليس إلا مدخلًا شيطانيًا لإسقاط الخوف من الله، وإلغاء التكاليف الشرعية، وتذويب الفطرة، وتبرير كل باطل باسم الحب. أما في الإسلام، فالحب الحقيقي هو حب الله ورسوله، وحب الخير وأهله، مع بغض الشر والكفر والمعصية، والجمع بين الحب والخوف والرجاء في عبادة الله وحده.
فلنحذر من هذه المفاهيم الدخيلة، ولنتمسك بعقيدتنا الصافية، ولنطلب من الله دائمًا أن يثبت قلوبنا على دينه، وأن يجعل حبه أحب إلينا من كل شيء، وأن يرزقنا الفهم الصحيح لديننا.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
كتبه: فريق التحرير التعليمي
استنادًا إلى نقاشات علمية وتجارب واقعية في مواجهة فلسفات الحب اللامشروط