الكابالا: الجذور الباطنية وأثرها على الفلسفات الشرقية وعلوم الطاقة
تعد الكابالا (القبّالة أو الكبّالة) من أكثر المفاهيم الباطنية غموضًا وتأثيرًا في تاريخ الأديان والفلسفات الشرقية والغربية. في هذا المقال، سنأخذكم في ر
تعد الكابالا (القبّالة أو الكبّالة) من أكثر المفاهيم الباطنية غموضًا وتأثيرًا في تاريخ الأديان والفلسفات الشرقية والغربية. في هذا المقال، سنأخذكم في رحلة لفهم الكابالا، نشأتها، أفكارها الجوهرية، وعلاقتها بالفلسفات الشرقية وعلوم الطاقة المنتشرة حديثًا، مع تسليط الضوء على الفروق الجوهرية بينها وبين التصوف والزهد في الإسلام.
ما هي الكابالا؟
الكابالا هي مجموعة باطنية نشأت في أوساط بعض أحبار اليهود، وتهدف إلى تفسير أسرار الكون والإله والكائنات الأخرى من منظور رمزي وسري. ظهرت هذه الحركة تحت اسم "الحكمة المستورة" وتُعرف بين اليهود باسم "القَبّالة"، وهي كلمة تعني القبول أو التصوف.
يعد كتاب "الزوهار" أهم مصادر الكابالا، وقد وضعه موسى دي ليون في القرن الثالث عشر الميلادي. يعتقد أتباع الكابالا أن كل كلمة أو حرف في التوراة يحمل معاني باطنية عميقة، وأن الأرقام والحروف لها تأثيرات سحرية وتكمن خلف تجليات الكون والخلق.
الرمزية والأعداد في الكابالا
من المعتقدات الأساسية في الكابالا أن التوراة ليست مجرد نصوص دينية، بل مخطط وتصميم للكون كله. فكل كلمة أو نقطة أو علامة فيها تخفي سرًا عظيمًا، وكل رقم له دلالة رمزية. على سبيل المثال، تم الربط بين عدد أوامر ونواهي التوراة (613 وصية) وعدد أعضاء ومفاصل جسم الإنسان، بحيث يُعتقد أن خرق أي وصية يؤثر على العضو المقابل في الجسد، وينعكس ذلك على الكون كله.
عقيدة التناسخ
تؤمن الكابالا بتناسخ الأرواح، حيث ورد في كتاب الزوهار أن كل الأرواح يجب أن تتناسخ وتخوض تجارب باطنية متكررة حتى تصل إلى الكمال أو الخلاص.
الكابالا والفلسفات الشرقية
الكابالا ليست نظامًا مغلقًا على اليهودية فقط، بل تأثرت وتأثرت بفلسفات عديدة مثل الزرادشتية، الهندوسية، البوذية، وفلسفات أفلاطون وفيثاغورس. فهي خليط من عقائد وفلسفات الشعوب التي احتك بها اليهود، وأعيدت صياغتها بشكل باطني جديد.
الغنوصية: الوجه الباطني للأديان
الغنوصية (Gnosticism) هي الاعتقاد بوجود أسرار وعقائد باطنية في كل دين، بحيث يكون له وجه ظاهري للعامة ووجه باطني خاص للمطلعين. وقد تسللت الغنوصية إلى كل الأديان تقريبًا، لكنها لم تجد لها قبولًا في الإسلام بسبب صفاء عقيدة التوحيد ومحاربة المسلمين لها عبر التاريخ.
الكابالا وعلوم الطاقة الحديثة
الكثير من مدارس "علوم الطاقة" و"العلاج بالطاقة" المنتشرة اليوم تستمد جذورها من الكابالا والغنوصية اليهودية، خاصة من فرع الكابالا اللوريانية التي ظهرت في القرن السادس عشر. انتقلت هذه الأفكار عبر العصور وأُعيد تغليفها بمصطلحات جديدة مثل "شرف الخلاص الكوني" و"مشاركة البشرية في ولادة الإله من جديد".
قصة الخلق في الكابالا اللوريانية
تقدم الكابالا اللوريانية تصورًا خاصًا لنشأة الكون، يبدأ بتجلي الإله في صورة نور عظيم يُسمى "عين سوف" (Ein Sof)، ثم يحدث انكماش وظهور فراغ كوني، وفي هذا الفراغ يولد الشر كجزء من تجليات الإله نفسه. لا يوجد في هذه العقيدة فصل حقيقي بين الإله والشيطان، بل يُعتبر الشيطان وجهًا آخر للإله (تعالى الله عما يقولون).
بعد ذلك، ينبثق من الإله عشرة تجليات نورانية (سيفيروت)، ويظهر "آدم قدمون" وهو صورة الإله الأصلية وتجليه في الكون. من آدم قدمون تخرج شرارات إلهية قوية كان يفترض أن تتجمع في أوعية، لكن هذه الأوعية لم تحتمل قوة النور فتهشمت وتبعثرت الشرارات، فيما يُعرف بحادثة "تهشم الأوعية". هذه الشرارات أصبحت تُفسر لاحقًا بأنها "الطاقة" في المفاهيم الحديثة.
شجرة الحياة والسيفيروت
تُعتبر شجرة الحياة في الكابالا الخريطة الجسدية والروحية للإله والإنسان معًا. كل سيفيروت (تجلي نوراني) يمثل صفة أو اسمًا من أسماء الإله، ويُعتقد أن الإنسان يحمل داخله هذه الشرارات الإلهية، وأنه قادر على إعادة الاتحاد مع الإله عبر طقوس روحية وتأملات خاصة.
التصوف والزهد: الفرق بين المفهوم الإسلامي والباطني
في الإسلام، التصوف (أو الزهد) هو ترك الملذات والمعاصي والتقرب إلى الله بالعبادات، دون محاولة فهم أو التأثير على ذات الإله. أما في الكابالا والغنوصية الباطنية، فالتصوف هو محاولة فهم ماهية الإله والتأثير عليه وتوجيه إرادته لخدمة الإنسان، وهو ما يتعارض تمامًا مع العقيدة الإسلامية.
التأملات الجماعية وخطورة الاختراق العقدي
تنتشر في مدارس الطاقة الحديثة طقوس التأمل الجماعي، والتي تعود جذورها إلى طقوس غنوصية وكابالية تهدف إلى إشراك البشرية في "شرف الخلاص الكوني" أو إعادة ولادة الإله. هذه الطقوس قد تبدو بريئة أو علمية في ظاهرها، لكنها تحمل في جوهرها أفكارًا باطنية تتعارض مع عقيدة التوحيد.
العوالم الموازية وفكرة الأكوان
تتحدث الكابالا عن وجود عوالم موازية انبثقت مع شجرة الحياة، وهي فكرة تسللت لاحقًا إلى بعض النظريات الفيزيائية الحديثة مثل الأكوان المتوازية، لكنها في الأصل فكرة باطنية تهدف إلى تفسير تعدد التجليات والواقع الخفي.
خلاصة واستنتاجات
- الكابالا نظام باطني معقد جمع بين عقائد وفلسفات متعددة وأعاد صياغتها بشكل رمزي غامض.
- الكثير من مدارس الطاقة والعلاجات الروحية الحديثة تستمد جذورها من الكابالا والغنوصية.
- التصوف والزهد في الإسلام يختلفان جذريًا عن التصوف الباطني في الكابالا.
- التأملات الجماعية وطقوس الطاقة تحمل في طياتها أفكارًا عقدية باطنية قد تتعارض مع العقيدة الإسلامية.
- من المهم البحث عن جذور الأفكار والممارسات وعدم الاكتفاء بالظاهر أو التسميات الحديثة.
دعوة للبحث والتدبر
في زمن كثرت فيه المفاهيم المستوردة والممارسات الروحية الجديدة، يجب على كل باحث عن الحقيقة أن يتعمق في أصول هذه الأفكار، وأن يقارنها بالثوابت العقدية لدينه. فليس كل ما يلمع ذهبًا، وليس كل ما يُسمى "علمًا" أو "طاقة" يخلو من جذور باطنية قد تحمل في طياتها مخاطر فكرية وعقدية.
ملاحظة: هذا المقال يهدف إلى التوعية والفهم، وليس إلى التحريض أو التشويه، بل إلى إلقاء الضوء على أصول الأفكار المنتشرة اليوم، ودعوة الجميع للبحث والتدبر قبل تبني أي ممارسة أو فلسفة جديدة.
https://www.youtube.com/watch?v=bhnI68wu6aI