الرُّقية الشرعية وممارسو الطاقة: إضاءات علمية ونصائح عملية للمتعافين والتائبين
في السنوات الأخيرة، انتشرت موضوعات الطاقة والتأمل والتنمية الذاتية في المجتمعات العربية، ورافقها جدل واسع حول علاقتها بالدين، وتأثيرها على الصحة النفس
في السنوات الأخيرة، انتشرت موضوعات الطاقة والتأمل والتنمية الذاتية في المجتمعات العربية، ورافقها جدل واسع حول علاقتها بالدين، وتأثيرها على الصحة النفسية والجسدية. في هذا المقال، نسلط الضوء على العلاقة بين الرُّقية الشرعية وممارسي الطاقة، ونوضح أهم المفاهيم المغلوطة، ونقدم نصائح عملية لمن خرجوا من دوامة هذه الممارسات ويرغبون في التعافي والعودة إلى الاستقرار النفسي والديني.
مقدمة: بين الرُّقية الشرعية وممارسات الطاقة
الرُّقية الشرعية هي منهج إسلامي أصيل للعلاج بالقرآن الكريم والأدعية المأثورة، وقد ثبتت مشروعيتها بضوابط واضحة من السنة النبوية. أما ممارسات الطاقة والتأمل، فهي مستوردة من ثقافات وفلسفات شرقية وغربية، وتقوم في الأساس على مفاهيم غيبية وطقوس ذات أبعاد روحية أو فلسفية، ليست لها جذور في الشريعة الإسلامية.
ومع تزايد أعداد من خاضوا تجارب الطاقة والتأمل، ظهرت فئة من "الناجين" أو "التائبين" الذين يسعون للشفاء من الآثار النفسية أو الروحية التي لحقت بهم. هنا تبرز أسئلة مهمة: هل الرُّقية الشرعية كافية وفعالة في علاج هذه الحالات؟ وهل كل من يمارس الرُّقية الشرعية مؤهل فعلاً للتعامل مع مَن خرجوا من دوامة الطاقة؟ وما هي المخاطر المحتملة إذا لجأ التائب إلى راقٍ غير مؤهل أو متأثر بمفاهيم الطاقة نفسها؟
1. أعراض ما بعد ممارسة الطاقة: تشخيص دقيق أم خلط وتشويش؟
غالبية من تركوا ممارسات الطاقة يواجهون أعراضاً متشابهة بنسبة كبيرة، مثل القلق، الاكتئاب، اضطرابات النوم، نوبات الهلع، ضعف التركيز، وأحياناً أعراض جسدية مثل الإرهاق أو آلام في مناطق متفرقة من الجسد. تختلف شدة هذه الأعراض حسب نوع المدرسة الطاقية، ومدة الممارسة، وعمق الانخراط فيها.
لكن من المهم جداً الانتباه إلى أن بعض الأشخاص دخلوا عالم الطاقة وهم أصلاً يعانون من أمراض نفسية أو روحية، مما يجعل التشخيص أكثر تعقيداً. فهل كل من ظهرت عليه هذه الأعراض هو بالضرورة مصاب بمس أو سحر أو عين؟ أم أن بعضها له تفسيرات نفسية أو جسدية بحتة؟
2. الرُّقية الشرعية: بين المنهج النبوي والانحرافات المعاصرة
الرُّقية الشرعية في أصلها دعاء وتلاوة لآيات من القرآن الكريم، مثل الفاتحة والمعوذات، مع التوكل على الله واليقين به. وقد قال النبي ﷺ: "اعرضوا عليَّ رقاكم، لا بأس بالرُّقى ما لم تكن شركاً". أي أن الأصل في الرُّقية أن تكون خالية من الشرك والبدع، وأن تلتزم بما ورد عن النبي ﷺ.
لكن الواقع اليوم يشهد انحرافات خطيرة، منها:
- ظهور رقاة يمارسون الدجل والشعوذة، ويدخلون مفاهيم الطاقة والشاكرات والهالة ضمن الرُّقية الشرعية، ويزعمون علاج الناس عبر فتح الشاكرات أو تنظيف الهالة، وهي مفاهيم لا أصل لها في الشريعة.
- تحديد أعداد أو أوقات أو طقوس غريبة للرُّقية، مثل ربطها بمراحل القمر أو ترديد آيات بعدد معين دون دليل شرعي.
- الاعتماد على التجربة الشخصية أو ما يُسمى بـ"المجربات"، في حين أن الأحكام الشرعية لا تُبنى على التجارب الفردية بل على النصوص الشرعية.
3. هل الرقاة الشرعيون مؤهلون لعلاج ممارسي الطاقة؟
الحقيقة أن أغلب الرقاة الشرعيين لديهم خبرة في التعامل مع حالات العين، الحسد، المس، والسحر بأنواعه، لكنهم ليسوا بالضرورة مؤهلين للتعامل مع الآثار النفسية أو الروحية الناتجة عن ممارسات الطاقة، والتي قد تتداخل فيها عوامل نفسية وجسدية وروحية معقدة.
بل إن بعض الرقاة أنفسهم تأثروا بمفاهيم الطاقة أو التصوف المنحرف، وأدخلوا مصطلحات وممارسات دخيلة على الرُّقية، مما يزيد الأمر سوءاً ويضاعف معاناة المريض، بل وقد يؤدي إلى نفق جديد من الشعوذة والضياع.
4. التداخل بين الأمراض النفسية والروحية: أهمية التشخيص المتكامل
من الأخطاء الشائعة أن يُفسر كل عرض نفسي أو جسدي بأنه مس أو سحر أو عين. كثير من ممارسي الطاقة يعانون من نقص في الفيتامينات أو المعادن، أو اضطرابات هرمونية، أو أمراض نفسية مثل القلق والاكتئاب، وهذه تحتاج إلى مراجعة الطبيب المختص أو الأخصائي النفسي، وليس فقط إلى الرُّقية.
لذلك، يُنصح كل من خرج من دوامة الطاقة أن:
- يُجري فحوصات طبية شاملة (دم، هرمونات، فيتامينات).
- يستشير أخصائي نفسي سلوكي معرفي، خاصة إذا كان يعاني من أعراض نفسية واضحة.
- يلتزم بالعبادات والأذكار والرُّقية الشرعية الصحيحة، مع الإكثار من الدعاء والصدقة وحسن الظن بالله.
5. هل كل مَن مارس الطاقة أصبح ساحراً؟
من الناحية الشرعية، ممارسة طقوس الطاقة التي تقوم على الخيمياء أو استدعاء قوى غيبية أو رموز سحرية، تدخل في دائرة المحرمات، وقد تصل إلى الشرك الأكبر إذا تضمنت استغاثة بغير الله أو طقوساً شركية. لكن كثيراً من الممارسين دخلوا هذه العوالم جهلاً أو بدافع الفضول أو البحث عن الشفاء، دون إدراك لخطورة ما يفعلون.
لذلك، التوبة النصوح والندم وترك هذه الممارسات، مع تصحيح العقيدة والعودة الصادقة إلى الله، هي أولى خطوات النجاة.
6. هل هناك أثر مكاني أو عائلي لممارسات الطاقة؟
بعض الآثار قد تمتد إلى البيت أو المحيط، مثل الشعور بالضيق أو كثرة المشكلات أو حتى تدهور العلاقات الأسرية، لكن هذه الأمور في علم الله، ولا يمكن الجزم بها. المهم هو الإكثار من الأذكار، وتطهير البيت من كل ما له علاقة بالطاقات أو الرموز أو التمائم أو الكتب المشبوهة.
7. نصائح عملية للمتعافين والتائبين من الطاقة
- لا تتعلق بالتشخيص: لا تشغل بالك كثيراً بتشخيص الحالة (هل هو مس أم سحر أم مرض نفسي)، بل ركز على العلاج الشامل: توبة، عبادة، رُقية، طب نفسي أو جسدي إذا لزم.
- لا تلجأ إلى الرقاة المشبوهين: ابتعد عن الرقاة الذين يستخدمون أساليب الطاقة أو الشاكرات أو يطلبون أموالاً طائلة أو يبتكرون طقوساً غريبة.
- اقرأ القرآن بنفسك: الرُّقية الشرعية الأصل فيها أن يقرأ الإنسان على نفسه أو أقرب الناس إليه، وليس شرطاً أن تلجأ إلى راقٍ دائماً.
- لا تتبع البدع: لا ترش الملح في البيت، ولا تستخدم أعشاباً أو وصفات دون علم أو دليل شرعي، ولا تكرر الأذكار أو الآيات بعدد معين إلا ما ورد به الدليل.
- حافظ على التحصين اليومي: أذكار الصباح والمساء، الصلاة، الصدقة، الدعاء، كلها أسلحة قوية في مواجهة أي ضرر روحي أو نفسي.
- لا تعظم من شأن الشياطين أو القوى الغيبية: فالله وحده هو القادر على النفع والضر، وما من مخلوق يستطيع أن يؤذيك إلا بإذن الله.
8. دور الأسرة والمجتمع في الوقاية والتوعية
من المهم أن يكون هناك وعي مجتمعي حول خطورة ممارسات الطاقة، وأن يتم تحصين الأبناء بالعلم الشرعي والثقافة الدينية، وتوضيح خطورة هذه الممارسات من خلال الحوار والنقاش الهادئ، لا بالعنف أو التسلط.
كما أن على الجهات الرسمية سنّ القوانين الرادعة لمن يروجون لهذه العلوم الزائفة، ومراقبة مراكز التدريب والدورات المشبوهة، حماية للمجتمع من آثارها المدمرة.
خاتمة: العودة إلى الله هي الحل
في النهاية، الشفاء الحقيقي بيد الله وحده، والأمان النفسي والروحي لا يأتي إلا من صدق التوبة، وحسن الظن بالله، والتمسك بالعبادات والأذكار، مع الأخذ بالأسباب الطبية والنفسية المشروعة. لا تجعل نفسك ضحية لممارسات دخيلة أو رقاة غير مؤهلين، وكن على يقين أن الله أرحم بك من كل أحد، وأنه لا يُحسن الظن به إلا من عرفه حق المعرفة.
احرص على تثقيف نفسك وأهلك وأبنائك، وكن جزءاً من نشر الوعي في مجتمعك، فالعلم والمعرفة هما الحصن المنيع أمام كل فكر دخيل أو ممارسة مشبوهة.
المراجع:
- القرآن الكريم والسنة النبوية
- فتاوى العلماء المعتبرين
- خبرات متعافين وتائبين من ممارسات الطاقة
- آراء أخصائيين نفسيين واجتماعيين
نسأل الله لنا ولكم العافية والهداية، وأن يحفظنا جميعاً من كل سوء وشر.
https://www.youtube.com/watch?v=jnBVrFXQFEY