التواضع بين المفهوم الإسلامي والانحرافات الفكرية الحديثة
في عصرنا الحالي، تنتشر العديد من المفاهيم المغلوطة حول القيم الإنسانية والأخلاقية، ومن أبرزها مفهوم "التواضع". كثيراً ما نجد من يروج لفكرة أن الإنسان
في عصرنا الحالي، تنتشر العديد من المفاهيم المغلوطة حول القيم الإنسانية والأخلاقية، ومن أبرزها مفهوم "التواضع". كثيراً ما نجد من يروج لفكرة أن الإنسان بداخله "نفخة روحية ربانية لا محدودة"، وأنه يمتلك قدرات خلق ليس لها أول ولا آخر، وأن هذه القدرات هبة من "خالق الحياة". ويُطرح علينا أن إنكار هذه الفكرة هو قمة الغرور والتعالي، بينما قبولها هو التواضع الحقيقي. فهل هذا هو التواضع الذي جاء به الإسلام؟
التواضع في المفهوم الإسلامي
الإسلام يعلّمنا أن التواضع هو معرفة الإنسان بحقيقته كعبد لله، وأن كل ما لديه من نعم وقدرات هي من فضل الله عليه. النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان قمة في التواضع، فقد كان يقول: "إنما أنا عبد، أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد". وعندما جاءه رجل فارتجف من هيبته، قال له: "هون عليك، إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة". هذا هو التواضع: أن تعرف أنك عبد لله، وأنك لا تملك من أمرك شيئاً إلا ما أذن الله به.
قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:
"إن الله تعالى أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد" (رواه مسلم).
التواضع في الإسلام ليس ضعفاً ولا احتقاراً للذات، بل هو اعتراف بأن القوة لله وحده، وأن الإنسان يستمد قوته من الله، وليس من أوهام أو أفكار دخيلة.
الانحرافات الفكرية حول التواضع
ظهر في العصر الحديث من يروج لفكرة أن التواضع هو أن تعترف بأنك "إله صغير" أو أن بداخلك "نفخة إلهية لا محدودة". ويستدلون بآيات أو ألفاظ من القرآن الكريم على غير معناها، مثل قول الله تعالى: "ونفخت فيه من روحي"، ويظنون أن هذه النفخة تعني أن الإنسان يحمل جزءاً من الألوهية أو القدرة الإلهية، في حين أن علماء الإسلام أكدوا أن هذه الإضافات في اللغة العربية هي إضافات تشريف وليست إضافات حقيقة.
هذه الأفكار ليست من الإسلام في شيء، بل هي من عقائد الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، وهي عقائد ظهرت في بعض الديانات والفلسفات الشرقية كالهندوسية، حيث يعتقدون أن الإنسان والإله شيء واحد أو أن الإله يحل في المخلوقات. أما في الإسلام، فالله سبحانه وتعالى بائن من خلقه، لا يحل فيهم ولا يتحد بهم، وكل ما سوى الله مخلوق.
الفرق بين الحلول والاتحاد ووحدة الوجود
- الحلول: أن الله منفصل عن خلقه، لكنه يحل فيهم أو في بعضهم.
- الاتحاد: أن الله والمخلوق يصبحان شيئاً واحداً، أي يتحد الخالق بالمخلوق.
- وحدة الوجود: أن الخالق والمخلوق في الأصل كيان واحد، ولا يوجد خالق منفصل عن المخلوق.
هذه العقائد دخيلة على الإسلام، وخطورتها أنها تخلط بين الخالق والمخلوق، وتؤدي إلى الشرك بالله عز وجل.
مغالطات حول التواضع
من أخطر المغالطات التي يقع فيها البعض، تصوير التواضع الإسلامي على أنه ضعف أو احتقار للذات، ثم تقديم البديل الهندوسي أو الوثني على أنه التواضع الحقيقي! في حين أن التواضع في الإسلام يجمع بين معرفة الإنسان بضعفه أمام الله، وبين سعيه للارتقاء بنفسه وخدمة مجتمعه بقوة وعزة مستمدة من الله، لا من أوهام أو خرافات.
المسلمون عبر التاريخ لم يكونوا ضعفاء أو مهزوزين، بل كانوا أصحاب همة عالية وقوة وثبات، لأنهم يعلمون أن قوتهم من الله، وأنهم مخلوقون لله وتحت حكمه. ولذا، عندما واجه المسلمون المشركين في معركة مؤتة مثلاً، كانوا قلة قليلة (3000 مقاتل) في مواجهة جيش ضخم (200,000 مقاتل)، ومع ذلك انتصروا بقوة إيمانهم ويقينهم بالله، لا بأوهام عن قدرات ذاتية لا محدودة.
أثر العقيدة الصحيحة في النفس والمجتمع
العقيدة الإسلامية الصحيحة تمنح الإنسان طمأنينة وثباتاً وقوة حقيقية، لأنه يعلم أن القوة لله وحده، وأنه عبد لله، يستمد منه العون والتوفيق. أما العقائد المنحرفة، فهي تبيع للناس الوهم، وتدفعهم للشعور بالغرور أو العجز في آن واحد، وتؤدي بهم إلى الانهزام النفسي عند أول اختبار.
قال الله تعالى:
"الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون" (الأنعام: 82).
أما الذين يخلطون الإيمان بالشرك، فهم أكثر الناس خوفاً وقلقاً وشكاً، لأنهم لم يحققوا التوحيد الخالص.
كيف نرد على هذه الشبهات؟
من المهم أن نكون على دراية بهذه الأفكار المنحرفة، وأن نعرف كيف نرد عليها بالحجة الشرعية والعقلية. إذا سمعت مثل هذه الأقوال في وسائل التواصل أو غيرها، تذكّر أن التواضع في الإسلام هو الاعتراف بفضل الله، والعمل بجد وإخلاص دون غرور أو ادعاء للألوهية أو القدرات الخارقة.
علينا أن نتمسك بالهدي النبوي، وأن نرد الشبهات بالأدلة الصحيحة، وأن نبني معرفتنا الشرعية على الكتاب والسنة، لا على الأفكار المستوردة أو المحرفة.
خلاصة
التواضع في الإسلام قيمة عظيمة، تعني معرفة الإنسان بحقيقته كعبد لله، والسعي للخير بقوة مستمدة من الله وحده. أما الأفكار التي تروج لفكرة "الإله الصغير" أو "النفخة الربانية غير المحدودة" فهي من العقائد الفاسدة التي يجب الحذر منها والرد عليها. فلنتمسك بعقيدتنا الصحيحة، ولنكن دعاة خير وهدى في زمن كثرت فيه الشبهات.
اللهم احفظنا من كل شرك وزيغ وضلال، واهدنا صراطك المستقيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
https://www.youtube.com/watch?v=f4t-4FniORI