مصادر التشريع في الإسلام: بين الوحي والوعي الداخلي
في عصر تتسارع فيه التغيرات الفكرية وتزداد فيه الهجمات على المبادئ والقيم، يبرز سؤال جوهري لكل مسلم: من أين نستمد تشريعنا؟ كيف نعرف الحلال من الحرام، و
في عصر تتسارع فيه التغيرات الفكرية وتزداد فيه الهجمات على المبادئ والقيم، يبرز سؤال جوهري لكل مسلم: من أين نستمد تشريعنا؟ كيف نعرف الحلال من الحرام، والصواب من الخطأ، وما هو الطريق الصحيح لعبادة الله؟ هذا السؤال أصبح أكثر إلحاحًا مع انتشار أفكار ومدارس العصر الجديد، التي تدعو إلى الاعتماد على "الوعي الداخلي" و"الحدس" كمصادر للتشريع، في مقابل الوحي الإلهي المتمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية.
فطرة التدين في الإنسان
من الحقائق الثابتة أن الإنسان مفطور على التدين، وأنه لا يمكن أن يعيش بلا عبادة. حتى من يدّعي الإلحاد أو عدم الانتماء لأي دين، فإنه في الحقيقة يعبد شيئًا ما، سواء كان نفسه، أو شهواته، أو حتى أفكارًا أو أشخاصًا. هذه الفطرة أشار إليها القرآن الكريم بقوله تعالى: "فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله التي فطر الناس عليها" (الروم: 30). فالتدين ليس أثرًا للوراثة أو التربية فقط، بل هو ضرورة نفسية واجتماعية، تظهر في كل المجتمعات البشرية عبر التاريخ.
لماذا نحتاج إلى الدين؟
الدين الحق يجيب عن الأسئلة الوجودية الكبرى: من أين جئنا؟ لماذا نعيش؟ إلى أين المصير بعد الموت؟ هذه الأسئلة لا يستطيع العلم التجريبي أو الفلسفة وحدهما الإجابة عنها بشكل شافٍ. ولهذا نجد أن كل أمة أو مجتمع وضع لنفسه حلولًا لهذه الأسئلة، بعضها صحيح وبعضها باطل أو سخيف، مثل فكرة تناسخ الأرواح أو عبادة قوى الطبيعة.
الإسلام، كدين سماوي خاتم، جاء ليقدم الإجابات الواضحة والصحيحة لهذه الأسئلة، ويمنح الإنسان الطمأنينة والاستقرار النفسي والروحي. فمعرفة أن هناك خالقًا حكيمًا، وأن هناك بعثًا وحسابًا وجنة ونارًا، تجعل للحياة معنى وغاية، وتضبط سلوك الإنسان في علاقته بنفسه وبالآخرين.
مصادر التشريع في الإسلام
مصدر التشريع في حياة المسلم واضح ومحدد: الوحي الإلهي، المتمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة. القرآن هو كلام الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، والسنة هي أقواله وأفعاله وتقريراته. يقول الله تعالى: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" (الحشر: 7).
السنة النبوية ليست منفصلة عن القرآن، بل هي شارحة ومبينة له، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من قوم يزعمون الاكتفاء بالقرآن وترك السنة، فقال: "ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه" (رواه أبو داود). فالسنة وحي من الله، لا ينطق عن الهوى.
دور العلماء وفهم السلف
فهم القرآن والسنة يحتاج إلى علم ودراية، وليس كل الناس مؤهلين لاستخراج الأحكام مباشرة. لهذا جعل الله العلماء ورثة الأنبياء، وأمرنا بسؤالهم عند الجهل: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" (النحل: 43). العلماء هم من نقلوا لنا معاني النصوص وشرحوا لنا أحكام الشريعة، وهم أحرص الناس على اتباع الدليل ونقل العلم الصحيح.
ليس في الإسلام كهنوت، لكن هناك تخصص علمي، كما في سائر العلوم. فمن أراد أن يكون عالمًا، فعليه أن يتعلم ويجتهد ويتدرج في طلب العلم، كما فعل العلماء عبر العصور.
شبهات العصر الجديد: الوعي الداخلي والحدس
من أخطر ما ظهر في زماننا، الدعوة إلى الاعتماد على "الوعي الداخلي" أو "الحدس" أو "الإلهام" كمصدر للتشريع أو معرفة الصواب والخطأ. هذه الأفكار، المنتشرة في مدارس الطاقة والتنمية البشرية وبعض حركات العصر الجديد، تدعو الإنسان إلى أن يستمع لصوته الداخلي، ويجعل من مشاعره وأحاسيسه معيارًا للحلال والحرام.
صحيح أن الإلهام والشعور الداخلي قد يكون فيه خير أحيانًا، لكن لا يمكن أن يكون مصدرًا للتشريع أو الأحكام. فالعلماء إذا جاءهم خاطر أو إلهام، لا يأخذون به إلا إذا وافق الكتاب والسنة، وإلا طرحوه جانبًا. لأن النفس قد توسوس، والشيطان قد يلبس على الإنسان، ولا عصمة إلا بالرجوع إلى الوحي.
خطر تحريف النصوص
من وسائل أهل الضلال أنهم لا ينكرون القرآن والسنة صراحة، بل يحرفون معاني النصوص، فيجعلون "الرسول" في القرآن هو "الرسول الداخلي"، ويؤولون الجنة والنار بأنها حالات نفسية داخلية، ويغيرون معاني الأحكام الشرعية لتوافق أهواءهم. وهذا تحريف خطير يخرج الإنسان عن جادة الصواب.
أهمية طلب العلم الشرعي
الطريق الآمن للثبات على الدين هو طلب العلم الشرعي من مصادره الموثوقة، وفهم القرآن والسنة بفهم سلف الأمة، والرجوع إلى العلماء الثقات. لا يكفي الاكتفاء بمقاطع قصيرة أو معلومات سطحية، بل لا بد من تخصيص وقت لتعلم العقيدة والفقه وأصول الدين. العلم نور يثبت الله به القلوب، ويحصن المسلم من الشبهات والانحرافات.
خاتمة
التشريع في الإسلام لا يؤخذ إلا من الله سبحانه وتعالى، عن طريق القرآن الكريم والسنة النبوية، بفهم العلماء الربانيين وسلف الأمة. أما الاعتماد على الوعي الداخلي أو الحدس أو الإلهام كمصدر للأحكام، فهو انحراف عن الطريق المستقيم، وفتح لباب الضلالات والشركيات. فلنحرص على تعلم ديننا من مصادره الصحيحة، ولنثبت على منهج السلف الصالح، سائلين الله الثبات والهداية.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اللهم ثبت قلوبنا على دينك، ووفقنا لطاعتك وطاعة رسولك، واجعلنا من الصالحين، وامتنا على التوحيد، وارض عنا وعن آبائنا وأمهاتنا وأهلنا وأحبتنا، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
نصيحة عملية للقراء:
خصصوا وقتًا يوميًا لتعلم أساسيات العقيدة والفقه من العلماء الموثوقين. لا تغتروا بالمظاهر أو الدعاوى البراقة، وعودوا دائمًا إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة. العلم حصنكم بعد الله من الشبهات والانحرافات، فاطلبوه بجد واجتهاد، واصبروا عليه، يثبت الله قلوبكم ويشرح صدوركم.
https://www.youtube.com/watch?v=XfoOs1uw3WA