نيكولا تسلا: بين الحقيقة والأسطورة – قراءة نقدية في حياة المخترع الأشهر
في السنوات الأخيرة، أصبح اسم نيكولا تسلا يتردد كثيرًا في الأوساط العلمية والشعبية، بل وتحوّل إلى رمز أسطوري لدى بعض الفئات، خاصة بين أنصار نظريات المؤ
في السنوات الأخيرة، أصبح اسم نيكولا تسلا يتردد كثيرًا في الأوساط العلمية والشعبية، بل وتحوّل إلى رمز أسطوري لدى بعض الفئات، خاصة بين أنصار نظريات المؤامرة والمهتمين بالعلوم الميتافيزيقية والطاقة الكونية. فهل كان تسلا بالفعل عبقريًا مظلومًا وأُحيطت حياته بالمؤامرات، أم أن هناك مبالغات وأخطاء شائعة حول شخصيته وإنجازاته؟ في هذا المقال، نستعرض حياة تسلا، ونحلل الحقائق والادعاءات التي ارتبطت به، ونكشف الجوانب التي غالبًا ما يتم تجاهلها أو تحريفها.
من هو نيكولا تسلا؟
نيكولا تسلا هو مخترع ومهندس صربي وُلد في صربيا عام 1856، ثم انتقل في شبابه إلى الولايات المتحدة حيث بدأ مشواره في عالم الهندسة الكهربائية. توفي تسلا عام 1943، وترك وراءه إرثًا كبيرًا من الاختراعات والابتكارات، إذ حصل على أكثر من 300 براءة اختراع في 25 دولة، منها 111 براءة في أمريكا وحدها. يُعتبر تسلا من أبرز المساهمين في تطوير تقنيات الكهرباء، لكنه تحول لاحقًا إلى شخصية مثيرة للجدل، خاصة بسبب أفكاره الفلسفية والباطنية في أواخر حياته.
الأساطير حول تسلا: بين الحقيقة والوهم
- شعاع الموت
من أشهر ما يُنسب إلى تسلا هو اختراعه المزعوم لـ"شعاع الموت"، وهو جهاز قيل إنه قادر على إطلاق طاقة مدمرة. لكن التحقيقات العلمية أثبتت أن فكرة شعاع الموت لم تتعدَ كونها تخمينات فلسفية وتسويقية أطلقها تسلا لجذب اهتمام المستثمرين، ولم يُقدم أي دليل علمي أو عملي على إمكانية تنفيذ هذا الجهاز.
- مخترع التيار المتردد
يعتقد كثيرون أن تسلا هو مخترع التيار الكهربائي المتردد (AC)، لكن الحقيقة أن المبادئ الأساسية للتيار المتردد كانت معروفة قبل ولادة تسلا بأكثر من 50 عامًا، حيث اكتشف العالم مايكل فاراداي عام 1832 إمكانية توليد تيار متردد. ما فعله تسلا هو تطوير وتحسين المحركات الكهربائية العاملة بالتيار المتردد، لكنه لم يكن أول من اخترعه.
- الصراع مع توماس إديسون
تنتشر رواية عن وجود حرب خفية بين تسلا وإديسون، وأن إديسون حاول تدمير حياة تسلا. لكن الواقع أن العلاقة بينهما لم تكن عدائية كما يُشاع، بل إن كليهما مدح الآخر في عدة مناسبات. الصراع الحقيقي كان بين إديسون وشركة ويستنجهاوس، التي عمل معها تسلا لفترة.
- المصباح الكهربائي
هناك من يزعم أن إديسون سرق فكرة المصباح الكهربائي من تسلا، وهذا غير صحيح. فالمصباح الكهربائي تم اختراعه قبل ولادة تسلا، وتحديدًا عام 1809 على يد السير همفري ديفي، ثم طوره آخرون وأضافوا إليه الخيط البلاتيني. إديسون اشترى براءة الاختراع وطوّر المصباح ليصبح منتجًا تجاريًا، ولم يكن لتسلا علاقة مباشرة بهذا الاختراع.
- الطاقة المجانية واللاسلكية
من أكثر الأساطير شيوعًا أن تسلا كان على وشك اكتشاف "طاقة مجانية" متاحة للجميع، وأن مؤامرة كبرى حالت دون تحقيق هذا الحلم. لكن تسلا لم يقدم أي ورقة علمية أو تجربة مُثبتة حول إمكانية نقل الطاقة لاسلكيًا بشكل عملي ومجاني. مشروعه لبناء برج "واردنكليف" لنقل الطاقة لاسلكيًا لم ينجح، وسحب المستثمرون تمويلهم بعد فشله في تحقيق النتائج المرجوة.
- الأهرامات والطاقة الكونية
تأثر تسلا بفكرة أن أهرامات مصر هي بطاريات ضخمة تولد الطاقة، واعتقد أن هناك أسرارًا كونية وراء أشكالها ومواقعها. لكنه لم يقدم أي دليل علمي على ذلك، وكانت هذه الأفكار جزءًا من فلسفته الباطنية التي تبناها في أواخر حياته.
الجوانب الباطنية والفلسفية في حياة تسلا
خلال أواخر حياته، أصبح تسلا مولعًا بالأفكار الباطنية والميتافيزيقية، مثل الإيمان بالـ"أثير" كسائل كوني يحمل الطاقة، وسجلات "الأكاشا" الهندوسية، وفكرة الطاقة البرانية التي تملأ الكون. تأثر تسلا بشكل واضح بالحكيم الهندي "سوامي" الذي التقى به في أمريكا، وبدأ يتحدث عن الطاقة الكونية ووحدة الوجود، بل وصرّح في كتابه "اختراعاتي" أن دماغه مجرد جهاز استقبال للمعرفة من مركز كوني.
كما كان لتسلا طقوس وسلوكيات غريبة، مثل هوسه بالأرقام 3 و6 و9، ووسواسه القهري الذي دفعه لتكرار بعض الأفعال بعدد معين من المرات، ورفضه للرياضيات الحديثة ونظرية النسبية لأينشتاين، وعدم إيمانه بالانشطار الذري أو وجود الإلكترونات، رغم أن العلم أثبت صحة هذه المفاهيم لاحقًا.
الحياة الشخصية والاضطرابات النفسية
عانى تسلا من اضطرابات نفسية واضحة، منها الوسواس القهري، وتقلبات المزاج بين الاكتئاب والهوس، وكان يعيش منعزلًا في الفنادق، ولم يتزوج أبدًا. كان له ارتباط غريب بحمامة بيضاء كان يعتقد أنها تتواصل معه بالتخاطر، وصرّح أنه أحبها كما يحب الرجل المرأة. هذه الجوانب يتم تجاهلها كثيرًا عند الحديث عن تسلا، رغم أنها أثرت بوضوح على مسار حياته وأفكاره.
تسلا بين العلم والوهم
لا يمكن إنكار أن تسلا كان مخترعًا عبقريًا وساهم بشكل كبير في تطوير الهندسة الكهربائية، لكن تحويله إلى رمز أسطوري وادعاء أنه كان ضحية مؤامرة كونية أو أنه صاحب أسرار علمية مخفية هو أمر غير دقيق. معظم إنجازاته كانت في نطاق محدد، ولم يكن عالمًا أكاديميًا أو صاحب نظريات علمية كبرى، بل كان مخترعًا عمليًا يعتمد على التجربة.
لماذا ينجذب أنصار نظريات المؤامرة إلى تسلا؟
يرتبط اسم تسلا بقوة في أذهان أنصار نظريات المؤامرة والمهتمين بالطاقة والوعي والعلوم الميتافيزيقية، ليس بسبب اختراعاته فقط، بل بسبب عقيدته الباطنية وأفكاره الخارجة عن المألوف. هؤلاء يرون في تسلا رمزًا للعبقرية المضطهدة، ويستخدمون اسمه لترويج أفكارهم حول الطاقة الكونية والأسرار الغيبية، رغم أن العلم الحديث لم يثبت صحة هذه الادعاءات.
العبرة والدروس المستفادة
من المهم أن نفرّق بين الإنجاز العلمي الحقيقي والأساطير التي تُبنى حول الشخصيات التاريخية. العلم يقوم على التجربة والدليل، وليس على الأقوال أو الاعتقادات الشخصية. يجب أن نعود دائمًا إلى المصادر الأصلية، ونقرأ بموضوعية بعيدًا عن التهويل أو التقديس الأعمى. إنجازات تسلا الحقيقية معروفة وموثقة، ولا حاجة لإضافة الأساطير إليها.
وفي النهاية، يبقى تسلا أحد أبرز المخترعين في العصر الحديث، لكن تحويله إلى نبي للطاقة أو رمز للمؤامرات هو أمر لا يخدم الحقيقة العلمية ولا يفيد المجتمعات الباحثة عن التقدم والمعرفة.
المراجع:
- كتاب "اختراعاتي" (My Inventions) لنيكولا تسلا
- مصادر علمية حول تاريخ الكهرباء واختراعات تسلا
- دراسات نقدية حول نظريات المؤامرة والطاقة الكونية
خلاصة القول:
العلم الحقيقي يقوم على الدليل والتجربة، وليس على الأساطير أو الاعتقادات الشخصية. فلنكن دائمًا منصفين في تقييمنا للشخصيات التاريخية، ولنبحث عن الحقيقة بعيدًا عن التهويل أو الخرافة.
https://www.youtube.com/watch?v=EA5HxLrH6BI