عصر النهضة وعلوم الطاقة: الجذور الفلسفية والتأثيرات الباطنية
في السنوات الأخيرة، انتشرت في العالم العربي مفاهيم مثل "علوم الطاقة" و"الوعي الكوني" و"التأمل" وغيرها من المصطلحات التي تبدو في ظاهرها علمية أو تنموية
في السنوات الأخيرة، انتشرت في العالم العربي مفاهيم مثل "علوم الطاقة" و"الوعي الكوني" و"التأمل" وغيرها من المصطلحات التي تبدو في ظاهرها علمية أو تنموية، لكنها في حقيقتها متجذرة في فلسفات وعقائد باطنية قديمة. هذا المقال يسلط الضوء على جذور هذه المفاهيم، ويكشف الروابط التاريخية والفكرية بينها وبين الحركات الفلسفية والروحانية التي ظهرت في أوروبا منذ عصر النهضة، وصولاً إلى العصر الحديث.
1. عصر النهضة: نقطة التحول الكبرى
بدأ عصر النهضة في أوروبا في القرن الخامس عشر، وكان بمثابة نقطة تحول كبرى في الفكر والثقافة الغربية. ظهرت فيه عائلات مثل "آل ميديتشي" في فلورنسا، والتي كان لها دور بارز في دعم الفنون والعلوم، لكنها أيضاً دعمت نشر الفلسفات الباطنية القديمة في أوروبا. تأسست في تلك الفترة "الأكاديمية الأفلاطونية" التي أعادت إحياء أفكار أفلاطون، لكنها مزجتها بالفكر الوثني والهرمسي.
من أبرز الفلاسفة الذين أثروا في تلك المرحلة "مارسيلو فيسينو"، الذي طرح فكرة "وحدة الوجود"؛ أي أن هناك روحاً عاقلة كونية تربط بين جميع الكائنات، من الملائكة إلى البشر إلى الحيوانات، وأن هذه الروح هي الوسيط بين العوالم العليا والسفلى. هذه الفكرة تشبه إلى حد كبير ما يُعرف اليوم بمصطلح "الطاقة الكونية".
2. من الفلسفة إلى الجمعيات السرية
لم يكن مصطلح "الطاقة" متداولاً في الفلسفات القديمة، بل ظهر مع تأسيس "الجمعية الثيوصوفية" في القرن التاسع عشر على يد هيلينا بلافاتسكي. هذه الجمعية جمعت بين تعاليم البوذية والهندوسية والكابالا اليهودية، وهدفت إلى توحيد البشرية تحت مظلة عقيدة واحدة تُسمى "الإنسانية" أو "الدين الإنساني"، وبدأت تروج لفكرة أن الطاقة الكونية هي جوهر كل شيء، وأن الإنسان يحمل في داخله "شرارات إلهية".
انتشرت هذه الأفكار عبر حركات مثل "العصر الجديد" (New Age)، وانتقلت إلى العالم العربي في فترات لاحقة، خاصة بعد الاستعمار والحروب العالمية، حيث دخلت هذه المفاهيم تدريجياً إلى المجتمعات العربية تحت غطاء التنمية البشرية أو الطب البديل أو التأمل.
3. الحب الأفلاطوني والجنس المقدس
من المفاهيم التي انتشرت في تلك الفترة أيضاً "الحب الأفلاطوني". ورغم أن الكلمة تُستخدم اليوم بمعنى الحب الطاهر، إلا أن أصلها في الفلسفات الباطنية كان يرتبط بمفهوم "إيروس"، إله الحب والشهوة في الأساطير اليونانية. كان يُعتقد أن ممارسة الجنس هي وسيلة للاتحاد مع الإله أو للوصول إلى "الحب الإلهي" والاندماج مع الكون، وهو ما يفسر انتشار الإباحية في الفنون والكنائس الأوروبية خلال عصر النهضة.
4. الكابالا: الجذور اليهودية للغنوصية والطاقة
الكابالا هي أحد أخطر أنواع السحر اليهودي، نشأت في بابل القديمة وتطورت على يد الحاخامات، وتُعتبر منبعاً للعديد من المفاهيم الباطنية مثل شجرة الحياة، العوالم الأربعة، والسيفيروت (مراكز الطاقة). انتقلت هذه التعاليم إلى أوروبا عبر "فرسان الهيكل" وغيرهم من الجمعيات السرية، وتأثرت بالفلسفات الهندية والفارسية واليونانية.
تعتمد الكابالا على التأمل للوصول إلى "الاستنارة"، وتربط بين الجسد والكون من خلال مراكز الطاقة (التشاكرا)، وتعتبر أن أي خلل في هذه المراكز يؤدي إلى اضطرابات جسدية ونفسية وروحية. هذه الأفكار انتقلت إلى "علوم الطاقة" الحديثة تحت مسميات مختلفة.
5. علوم الطاقة: تحديث الغنوصية في ثوب عصري
مع تطور العصر الحديث، تم تحديث هذه العقائد لتتناسب مع لغة العلم والتنمية الذاتية. ظهرت مصطلحات مثل "البرمجة العصبية"، "تطوير الوعي"، "التأمل"، "تنظيف الشاكرات"، وغيرها. لكن جوهرها ظل مرتبطاً بفكرة أن الإنسان يحمل "شرارات إلهية" في داخله، وأنه يستطيع عبر ممارسات معينة أن يرتقي في مراتب الوعي، ويحقق الاتحاد مع "الطاقة الكونية".
هذه المفاهيم تتعارض مع العقيدة الإسلامية التي تؤكد على التوحيد، وأن الله منفصل عن خلقه، وأن العمل الصالح هو سبيل الارتقاء، وليس مجرد تمارين أو طقوس روحية.
6. الطب البديل والطب الشعوري: بوابة جديدة للعقائد الباطنية
في السنوات الأخيرة، دخلت هذه المفاهيم إلى ميدان الطب عبر ما يُسمى "الطب البديل" أو "الطب الشعوري"، حيث يُروج لفكرة أن الأمراض الجسدية سببها اختلال في الطاقة أو مراكزها (التشاكرا)، وأن العلاج يكون عبر التأمل أو تمارين التنفس أو طقوس معينة. كثير من الأطباء والممارسين دخلوا هذا المجال دون وعي بجذوره الفلسفية والدينية.
7. خطورة الانخراط في هذه الممارسات
من المهم أن يدرك القارئ أن هذه العلوم ليست مجرد تمارين بريئة أو وسائل للاسترخاء، بل تحمل في طياتها عقائد باطنية تهدف إلى هدم مسألة الألوهية والربوبية، وتروج لفكرة وحدة الوجود، وتفتح الباب أمام الشرك والابتداع.
كذلك، فإن الانخراط في ممارسات مثل التأمل العميق أو تكرار الأذكار بأعداد مبتدعة أو البحث عن "الخروج من الجسد" (الإسقاط النجمي) قد يكون مدخلاً للاستدراج الشيطاني، ويؤدي إلى اضطرابات نفسية وروحية خطيرة.
8. كيف نحمي أنفسنا وأبناءنا؟
- التمسك بالقرآن والسنة: العودة إلى مصادر الدين الصحيحة، وفهم العقيدة من خلال تفسير الصحابة والسلف الصالح.
- التحصين بالأذكار الشرعية: الالتزام بالأذكار الواردة في السنة، دون ابتداع أو تكرار بأعداد غير مشروعة.
- الوعي بمصادر الأفكار: التحقق من جذور أي ممارسة أو علم جديد قبل الانخراط فيه، وعدم الانبهار بالمصطلحات البراقة.
- التثقيف الذاتي: قراءة الكتب الموثوقة، وسؤال أهل العلم عند الشبهات.
- الحذر من الجمعيات والدورات المشبوهة: كثير من الدورات التدريبية أو المدارس التي تروج لعلوم الطاقة أو التنمية البشرية تحمل في طياتها هذه العقائد الباطنية.
خلاصة القول
إن علوم الطاقة والتأمل وغيرها من الممارسات الروحانية الحديثة ليست مجرد وسائل للاسترخاء أو التطوير الذاتي، بل هي امتداد لعقائد باطنية قديمة تهدف إلى تغيير نظرة الإنسان لنفسه وللخالق وللكون. من واجبنا كمسلمين أن نكون على وعي بهذه الجذور، وأن نحمي أنفسنا وأبناءنا من الانجرار وراء هذه التيارات الفكرية التي تتعارض مع التوحيد الخالص.
نسأل الله أن يثبتنا على الحق، وأن ينير بصائرنا، وأن يجزي كل من يسعى لتوعية الناس خير الجزاء.
مراجع مقترحة للقراءة:
- "الغنوصية في الفكر الغربي" – بهاء الأمير
- "الكابالا: الجذور والتأثيرات" – دراسات متخصصة
- "عصر النهضة وأثره على الفكر الديني في أوروبا" – مصادر تاريخية
شارك المقال مع من تحب، وكن سبباً في نشر الوعي وحماية العقيدة.
https://www.youtube.com/watch?v=XnH_bs2cuOk