🔵 تأصيل : طلبة العلم الشرعي وفخ التنمية البشرية وتطوير الذات
في السنوات الأخيرة، انتشرت بشكل واسع دورات التنمية البشرية وتطوير الذات في المجتمعات العربية، حتى أصبحنا نرى الكثير من طلبة العلم الشرعي، بل وبعض العل
طلبة العلم الشرعي وفخ التنمية البشرية وتطوير الذات: رؤية نقدية
مقدمة
في السنوات الأخيرة، انتشرت بشكل واسع دورات التنمية البشرية وتطوير الذات في المجتمعات العربية، حتى أصبحنا نرى الكثير من طلبة العلم الشرعي، بل وبعض العلماء والدعاة، يشاركون في هذه الدورات أو حتى يقدمونها بأنفسهم. فهل فعلاً التنمية البشرية علم نافع؟ وما علاقتها بالعلوم الشرعية والاجتماعية؟ وهل يمكن اعتبارها علماً تجريبياً أو منهجاً معتمداً في الجامعات العالمية؟ في هذا المقال، سنسلط الضوء على هذه التساؤلات، ونكشف خلفيات هذا المجال، وأسباب انتشاره، وأهم الإشكالات المرتبطة به، خاصة بين طلبة العلم الشرعي.
ما هي التنمية البشرية وتطوير الذات؟
التنمية البشرية وتطوير الذات هي مجموعة من الدورات والبرامج التي تهدف – كما يُروَّج لها – إلى تحسين مهارات الإنسان الشخصية والاجتماعية والمهنية، وزيادة ثقته بنفسه، وتحفيزه على النجاح وتحقيق الأهداف. غالباً ما تعتمد هذه الدورات على مدربين أو "كوتشز" يقدمون نصائح عامة وقصص تحفيزية، ويزعمون امتلاكهم لمفاتيح السعادة والنجاح والثراء.
لكن المشكلة الكبرى أن كثيراً من هذه الدورات لا تستند إلى أسس علمية راسخة، ولا إلى مناهج أكاديمية معتمدة، بل تعتمد على خليط من الأفكار الفلسفية الشرقية والغربية، وبعض المفاهيم النفسية والاجتماعية المقتبسة أو حتى المسروقة من علوم أخرى، وتُقدَّم في قالب تحفيزي أو روحاني يغلب عليه الطابع التجاري.
لماذا انجذب طلبة العلم الشرعي إلى التنمية البشرية؟
من المؤسف أن نجد اليوم عدداً كبيراً من طلبة العلم الشرعي، بل وبعض الأكاديميين والقضاة والأئمة، قد وقعوا في فخ التنمية البشرية وتطوير الذات. بعضهم أصبح مدرباً أو كوتشاً معتمداً، ويقدم استشارات ودورات في هذا المجال، بل ويزعم أن التنمية البشرية علم نافع فيه خير عظيم للمجتمع.
يرجع ذلك إلى عدة أسباب، منها:
- الخلط بين التنمية البشرية والعلوم الإنسانية أو الاجتماعية: يظن البعض أن التنمية البشرية فرع من علم النفس أو علم الاجتماع أو الموارد البشرية، بينما هي في حقيقتها ليست كذلك.
- الإغراءات المالية والاجتماعية: حيث توفر هذه الدورات فرصة للظهور والشهرة وجني المال بسرعة، دون الحاجة إلى مؤهلات أكاديمية حقيقية.
- الانبهار بالمصطلحات الغربية والقصص التحفيزية: إذ يتم تسويق التنمية البشرية عبر قصص نجاح خيالية وشهادات براقة ومسميات رنانة مثل "خبير"، "مستشار"، "كوتش"، إلخ.
هل التنمية البشرية علم حقيقي؟
عند البحث في الجامعات العالمية المرموقة، مثل هارفارد وأكسفورد وكامبريدج وجامعات العالم العربي، نجد أنه لا يوجد أي قسم أكاديمي أو تخصص علمي رئيسي باسم "التنمية البشرية" أو "تطوير الذات". بل إن معظم الجامعات والهيئات العلمية تصنف التنمية البشرية ضمن "العلوم الزائفة" (Pseudo-sciences)، وتعتبرها أقرب إلى الدجل أو بيع الوهم منها إلى العلم التجريبي.
حتى معاهد الأبحاث الكبرى في أمريكا، مثل معهد دوكسي، أثبتت أن 86% من المشاركين في دورات التنمية البشرية لم تتغير حياتهم للأفضل، بل إن 32% منهم أصيبوا بأعراض نفسية سلبية نتيجة خيبة الأمل.
جذور التنمية البشرية: من أين جاءت؟
من المهم معرفة أن التنمية البشرية وتطوير الذات نشأت من نفس الرحم الذي خرجت منه مدارس التنجيم والطاقة والتأملات الشرقية (العصر الجديد - New Age). كثير من مناهج التنمية البشرية الحديثة مستمدة من الفلسفات الغنوصية والباطنية والماسونية، وتعتمد على أفكار مثل "قانون الجذب"، "العقل الباطن"، "خلق الواقع"، "تحقيق الأهداف عبر المشاعر"، وغيرها من المفاهيم التي تتعارض مع العقيدة الإسلامية في التوحيد والقدر والدعاء.
بل إن بعض المنظمات العالمية التي تمنح شهادات الكوتشينج (مثل ICF) لا تشترط أي مؤهل علمي، وتقدم شهادات بمقابل مادي فقط، كما أن مؤسسها توماس ليونارد كان من أبرز أعضاء العصر الجديد وداعمي حركات المثليين.
إشكالات شرعية وعلمية
1.خلط الحق بالباطل
تقوم التنمية البشرية على خلط بعض المفاهيم الصحيحة (كالتحفيز، وتطوير الذات، وتنظيم الوقت) مع أفكار باطلة وخرافات غير مثبتة علمياً، بل أحياناً تتعارض مع العقيدة الإسلامية.
2.ادعاء العلم والتخصص
كثير من المدربين يحملون شهادات لا قيمة لها علمياً أو عملياً، ويمنحون أنفسهم ألقاباً مثل "مستشار أسري" أو "خبير حياة" دون أي دراسة أكاديمية حقيقية في علم النفس أو الاجتماع.
3.تسويق الوهم والقصص الخيالية
تعتمد الدورات على قصص نجاح خيالية، ووعود بتحقيق المستحيل، وتغيير الأقدار عبر المشاعر، وخلق الواقع عبر التفكير الإيجابي، دون أي دليل تجريبي أو نتائج ملموسة.
4.خطر على العقيدة
أخطر ما في الأمر هو تسلل مفاهيم العصر الجديد إلى عقول المسلمين، مثل تعظيم النفس، وتاليه العقل الباطن، وربط الأرزاق والمصائر بالمشاعر والوعي، بدلاً من الإيمان بالقضاء والقدر والتوكل على الله والأخذ بالأسباب المشروعة.
لماذا لا تعترف الجامعات والهيئات العلمية بالتنمية البشرية؟
- لا يوجد منهج علمي واضح: التنمية البشرية لا تقوم على نظريات علمية مثبتة، ولا تعتمد على أدوات قياس أو نتائج قابلة للتكرار.
- لا توجد أقسام أكاديمية أو تخصصات رسمية: لا في الجامعات العربية ولا الغربية.
- الشهادات غير معترف بها: لا في الترقيات الوظيفية ولا في القطاع العام أو الخاص.
- معظم محتواها مسروق من علوم أخرى: مثل علم النفس، وعلم الاجتماع، والاقتصاد، والعلوم الإنسانية.
أمثلة واقعية: بيع الوهم وتحطيم النفوس
كثير من المشاركين في دورات التنمية البشرية يخرجون منها بدفعة من "الدوبامين" والتحفيز المؤقت، لكن سرعان ما يصابون بالإحباط حين لا تتحقق الوعود، ويكتشفون أن حياتهم لم تتغير. بل إن البعض يصاب بالاكتئاب أو القلق أو حتى مشاكل نفسية حادة.
أما المدربون، فكثير منهم لم يحققوا نجاحاً حقيقياً في حياتهم العملية، بل يعيشون على بيع الدورات والشهادات الوهمية، ويتصدرون المشهد عبر وسائل التواصل الاجتماعي دون أي رقيب أو حسيب.
التنمية البشرية بين الواقع والوهم
لا أحد ينكر أهمية تطوير الذات، وتنظيم الوقت، وتحليل الأخطاء، وتحسين السلوك، والسعي للنجاح. ولكن الفرق كبير بين التعلم الحقيقي القائم على العلم والتجربة، وبين بيع الوهم عبر قصص خيالية وتحفيز مؤقت لا يستند إلى أي أساس علمي أو شرعي.
التطوير الحقيقي للنفس يكون عبر:
- طلب العلم النافع من مصادره الموثوقة.
- الاستفادة من المتخصصين في علم النفس والاجتماع والطب.
- العمل الجاد والاجتهاد والأخذ بالأسباب المشروعة.
- التوكل على الله والإيمان بالقضاء والقدر.
- مراجعة النفس وتصحيح الأخطاء بطريقة علمية.
نصيحة لطلبة العلم الشرعي
يا طلبة العلم الشرعي، أنتم قدوة المجتمع وحملة كتاب الله وسنة نبيه. من المؤسف أن يقع بعضكم في فخ التنمية البشرية وتطوير الذات، ويساهم في تسويق الوهم للمسلمين باسم الدين والعلم. قبل أن تقدموا أي دورة أو استشارة أو شهادة، تحققوا من مصدرها وقيمتها العلمية والشرعية، واستفتوا العلماء الربانيين في جواز أخذ الأموال عليها.
لا تكونوا أداة لنشر أفكار العصر الجديد أو ترويج الخرافات والعلوم الزائفة. حافظوا على مكانتكم وقدركم، وكونوا دعاة للعلم النافع والعمل الصالح، لا لبيع الوهم وتحطيم النفوس.
خلاصة
التنمية البشرية وتطوير الذات، كما تُقدَّم اليوم في معظم الدورات والبرامج، ليست علماً حقيقياً ولا منهجاً أكاديمياً معتمداً، بل هي خليط من الأفكار الفلسفية والروحانية والعلوم الزائفة، وقد تشكل خطراً على العقيدة والسلوك. الواجب على طلبة العلم الشرعي وغيرهم تحري الحقائق، وعدم الانسياق وراء الألقاب الرنانة والوعود الكاذبة، والرجوع إلى أهل الاختصاص والعلماء في كل ما يُشكل عليهم.
حفظ الله الجميع من كل فخ وفتنة، ووفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح.